مصر تتغير، فعندما زرت القاهرة، هذا الشهر، بدت المدينة التي عشت فيها لسنوات عدة من قبل، كعهدي بها دائماً: شوارع مزدحمة نهاراً وليلًا، اختناقات مرورية، منازل عتيقة في حاجة لصيانة، وناطحات سحاب لم تكتمل بعد. كل ذلك كان من المظاهر القاهرية المألوفة بالنسبة لي، ولكنني عندما تحدثت مع أصدقائي المصريين اكتشفت أن آراءهم قد تغيرت بسبب الأحداث التي وقعت خلال الشهور القليلة الماضية. وقد قمت بزيارة لمقر الحزب "الديمقراطي الاجتماعي"، وهو حزب لم يكن موجوداً على الساحة منذ ثلاثة شهور فقط، وتوجد مكاتبه المؤقتة في الطابق العلوي في مبنى مكاتب يقع في وسط البلد، فوق وكالة سفر. في فترات الراحة بين المناقشات المحتدمة التي كان يجريها مع زملائه عن المسودات السياسية والبيانات الصحفية، قال لي مسؤول كبير في الحزب، وهو شاب لا يزيد عمره عن 33 عاماً، إنه قد أخذ إجازة من عمله في البورصة، للمساعدة على إعداد الحزب لخوض الانتخابات التي ستجري في شهر سبتمبر المقبل. وقال لي أيضاً إن سياسات الحزب مصممة على غرار السياسات الليبرالية الأوروبية، وإن هناك حرصاً من قيادة الحزب على ضم أعضاء مسلمين ومسيحيين على حد سواء. وهذه النقطة الأخيرة تحديداً، وكما سمعت مراراً وتكراراً خلال زيارتي، تشغل بال كل شخص في مصر في الوقت الراهن بعد التوترات التي حدثت بين المسلمين والمسيحيين عقب تغيير النظام. وقد ذهبت مع صديقي هذا لندوة عقدت بأحد الفنادق، نظمتها أربعة أحزاب ليبرالية بغرض تقديم برامجها الانتخابية. امتلأت قاعة الحضور في الفندق عن آخرها بالحاضرين الذين تجاوز عددهم الألف في حين لم يتمكن عشرات آخرون من الدخول بسبب عدم وجود أماكن. وما رأيته في الفندق، ومن قبل في مقر الحزب، كان يمثل بالنسبة لي تغييراً كبيراً عما كان سائداً في عصر مبارك. ففي هذا العصر كان الاهتمام بالسياسة ضئيلًا، وكانت مشاركة المصريين في الانتخابات محدودة، وكانت أي مناسبة حزبية - مثل هذه المناسبة - لا تجتذب سوى عدد قد لا يتجاوز أصابع اليدين. وكان معظم الحضور في الندوة من الشباب المصري الذي تأثر بالفورة السياسية الجديدة التي لم يشهد لها مثيلًا من قبل. كان بعض هؤلاء الشباب يستخدمون أجهزة كمبيوتر وهواتف نقالة ينقلون عن طريقها ما يدور داخل القاعة إلى زملائهم الموجودين خارجها، الذين لم يتمكنوا من المشاركة. قال لي القياديون في الحزب "الليبرالي" المذكور آنفاً إنهم يفضلون انتخاب محمد البرادعي رئيساً. ولكنني عندما سألت البرادعي حين التقيته عما إذا كان يشعر بالتفاؤل كانت إجابته بالنفي، لأن أموراً لم تكن تدار على الوجه الأنسب، وتصدر الإعلانات والقرارات دون مشاورة مع أحد. قال لي أيضاً إنه لا يعرف حتى ما هي صلاحيات الرئيس الجديد. وتساءل متعجباً: "كيف أتقدم لشغل وظيفة لا أعرف ما هي أوصافها على وجه التحديد؟". كل شخص تقريباً التقيته وتناقشت معه قال لي إن الموضوع الملح والعاجل الذي يجب إيجاد حل له هو موضوع الأمن الغائب، الذي فاقم من الإحساس بغيابه تلك الاشتباكات، التي وقعت بين المسلمين والمسيحيين في الآونة الأخيرة. وكم القلق الذي يشعر بها المسيحيون المصريون في الوقت الراهن يفوق ما عرفوه طيلة حياتهم. يرجع ذلك للحوادث الأخيرة التي شهدت إحراق كنائس، ومعارك بالأسلحة النارية بين المسلمين والمسيحيين أسفرت عن مصرع 15 شخصاً، وإصابة المئات، ونشرت جواً من الخوف والرعب لدى المسيحيين. وقال لي أستاذ بجامعة القاهرة إن الصراع الطائفي الذي شهدته مصر مؤخراً هو الأسوأ خلال أجيال، وهو أمر يختلف عما كان عليه الحال بين الطائفتين منذ شهور قليلة، عندما تجمع الشبان المسلمون والمسيحيون معاً في ميدان التحرير مطالبين بالتغيير، ومظهرين احتراماً كبيراً لعقيدتيهما، وشاعرين بالفخر لأن التغيرات التي قاموا بها قد جلبت معها شعوراً بالوحدة بين مكونات المجتمع. في ذلك الوقت شعر المسيحيون بالأمان أكثر من أي وقت من قبل، ولكن الهجمات التي استهدفت الكنائس بعد ذلك جلبت معها شعوراً بالتوجس والخوف للمسيحيين الذين باتوا لا يدرون ما الذي يمكن أن يحدث لهم مستقبلاً. البعض يرجع السبب في ذلك التوتر، إلى النشاط الزائد وغير المتوقع الذي يقوم به السلفيون في مختلف أنحاء مصر في الوقت الراهن. ومن المعروف أن السلفيين كانوا يتحاشون الظهور في سنوات حكم مبارك، أما الآن فيشعرون أنهم قد باتوا أحراراً في الإتيان بالأفعال التي تظهر معتقداتهم الطهرانية. في الوقت الراهن يقود المجلس العسكري الأعلى مصر رسمياً، ويحافظ الجيش على سمعته الممتازة باعتباره حامي الشعب، خصوصاً بعد أن رفض ضرب المتظاهرين، وحافظ على الأمن عندما اندلعت الاضطرابات واختفت قوات الشرطة المكروهة من الشوارع. هناك أسئلة عديدة حول سبب عدم قيام الجيش بمنع الاشتباكات الطائفية الأخيرة. والإجابة المنطقية على ذلك هي أن الجيش بحكم طبيعته غير مؤهل للقيام بأعمال الشرطة مثل حراسة الطرق وفض المناوشات التي تحدث أحياناً في المدن، وإنما هو مؤهل لخوض الحروب والدفاع عن الحدود. ويقال إن قيادة الجيش تدفع من أجل سرعة إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لأن الجيش يريد أن ينسحب من المسؤوليات السياسية المباشرة، ويعود لثكناته للمحافظة على الصورة الناصعة له في قلوب الناس، والتي تعززت خلال الآونة الأخيرة. "الأخوان المسلمون" يشهدون نشاطاً ملحوظاً، فالسنوات التي عانت خلالها الجماعة من القمع تحت حكم النظام السابق، صقلتها، وجعلت منها جماعة مهتمة بالسلطة السياسية ولكنها لا تتعجل ذلك بل تفضل الانتظار لحين تحقيق المزيد من التطور. وفي الوقت الراهن، وبعد أن أصبح من حق الجماعة المشاركة في الانتخابات البرلمانية، فإن قادتها يبذلون جهداً كبيراً من أجل تقديم أنفسهم للجمهور كساسة يفضلون أن يلعبوا دور الأغلبية البرلمانية في الفترة القادمة، ولا يتعجلون القفز للحصول على جوائز أكبر. وفي الحقيقة إن تحول مصر السياسي الحالي لم يكتمل بعد، حيث ما زال هناك العديد من الأسئلة التي تنتظر إجابات خلال الشهور القادمة. لكن الحقيقة إن مشكلات مصر الاقتصادية أكثر صعوبة بكثير من ذلك، حيث قال لي بعض رجال الأعمال الذين التقيتهم إن الاقتصاد قد بات في حالة سيئة، وإن المناقشات الجادة بشأن كيفية إيجاد الحلول لهذا الوضع الصعب لم تبدأ بعد. ولا شك أن الشباب المصري الذي يتجمع كل يوم جمعة في ميدان التحرير لديه بعض التأثير على الجنرالات، ولكن الأمر ما زال بحاجة إلى بعض الوقت حتى نرى الكيفية التي سيتطور بها النظام السياسي الرسمي... وما زالت التطورات تتوالى. ويليام رو دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون الشرق الأوسط