تفتخر دول العالم بصناعاتها وإبداعاتها ومخترعاتها التي تشتهر بها وتعتبرها سلعاً وطنية مرتبطة بهويتها. وكونت شركاتها الكبرى اسماً لنفسها في عالم السلع والمنتجات، فاليابانيون هم رواد التقنية والأجهزة الدقيقة، والألمان ارتبطت بهم بعض أشهر السيارات في العالم، والسويسريون لم يستطع أحد منافستهم حتى الآن في صناعة الساعات، والفرنسيون والطليان هم الرواد في الأزياء والعطور، والأميركيون برعوا في كل شيء تقريباً بدءاً من الصناعات الثقيلة كالطائرات مروراً بالتكنولوجيا وأجهزة الكمبيوتر. حتى الصينيون أنشأوا مصانع لكل شيء وقلدوا منتجات الآخرين ولو بجودة أقل، ولكنهم استطاعوا أن يغرقوا أسواق العالم بمنتجات هزت كيان الشركات الكبرى أصحاب "البراندات" العالمية. معظم شعوب العالم استطاعت أن تحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، لكننا نحن العرب نستهلك كل شيء دون أن ننتج إلا الأقل. وبالتالي لا ينبغي للفرد أن يفخر إذا ما مكنته قدرته المالية من شراء "البورش"، أو اقتنى من ماركة فيرزاتشي ولويس فيتون، أو لبس نظارة من "ديور". فنحن نستهلك ما فكر فيه وأبدعه وأنتجه غيرنا، وسوق للعالم، ولا يعني هذا أننا متطورون ومتحضرون. صارت مجتمعاتنا العربية تنظر إلى الاستهلاك واقتناء الماركات كنوع من المدنيَّة والتحضر.. وأصبحت المدن العربية تعج بعشرات مراكز التسوق و"المولات" التي تستقطب مئات الآلاف من الزوار المتسوقين يوميّاً، وتعرض محلاتها منتجات من مختلف الماركات العالمية. الاستهلاك ليس عيباً، واقتناء منتجات فاخرة واللبس من الماركات الراقية ليس قضية، لكن المشكلة في أن هذا السلوك، مدفوعاً بواسطة آلة الدعاية والإعلان والترويج، حوّل اليوم الكماليات إلى ضروريات. وأصبحت المنتجات التي كان لا يقترب منها في السابق إلا ذوو الدخل المرتفع يتنافس عليها الآن ذوو الدخل المتوسط وحتى المحدود. ومجتمعاتنا المادية اليوم تُقيّم فيها مكانة الشخص من ملبسه ونوع مركبه وماركة ساعته. كيف لا وآلة الدعاية والإعلان برمجت في عقولنا الباطنة أن الحصول على هذا المنتج يحقق السعادة، ويجعل الشخص مميزاً أو يرغّب فيه الجنس الآخر. حتى الأطفال لم يسلموا من تأثير آلة التسويق والدعاية. تقول الإحصاءات إن نسبة ما تستورده الدول العربية من منتجات استهلاكية تشكل ما يقرب من 85 في المئة من تلك التي تنتجها. وهذه النسبة خطيرة وتعني أننا كشعوب ليست لدينا استقلالية. وإذا ما حدث طارئ ما -لا سمح الله- وتعطلت حركة الملاحة البحرية والجوية لفترة طويلة عن بلداننا فهل سنموت من الجوع؟ وهل ستقوى أجساد أبنائنا الغضة والطرية على تناول لبن النوق مع التمر بدلًا من الكورن فليكس والخبز المدهون بالنوتيلا؟ وهل ستحتمل نساؤنا عدم وجود مرطبات البشرة واللوشن الواقي من الشمس وكريمات الصباح والمساء؟ وكم يكون عصيّاً على شبابنا تقبل فكرة بدء يومهم دون كوب قهوة من ستاربكس أو شاي "لبتون" بحليب "رينبو". لم نوجد لأنفسنا بدائل كافية للضروريات كالغذاء والدواء ووسائل النقل وغيرها من مستلزمات الحياة من إنتاجنا وصنع سواعدنا وعرق جبيننا لنفخر بها كما يفخر الإيطالي بالفيراري والألماني بالمرسيدس. والأدهى أننا سقطنا في فخ الكماليات وغرمنا بها إلى حد عدم تخيل القدرة على العيش دونها. نرى من حولنا دولاً كانت عالماً ثالثاً وظروفها كانت أشبه بظروفنا، لكنها انتفضت على واقعها وغيرت من سلوكها الحضاري لتحقق الموازنة بين معدل الإنتاج والاستهلاك مثل ماليزيا والبرازيل وتركيا. فهل نستطيع كمجتمعات عربية أن نلحق بالركب الحضاري الإنساني ونساهم ولو يسيراً في العلوم والصناعة والتقنية كمنتجين لا كمستهلكين؟ أملنا في أن تمر عاصفة التغير السياسي بعالمنا العربي بأقل الخسائر، وأن تخلق للشعوب واقعاً جديداً أفضل مما هي عليه.