عشرات الآلاف من المتظاهرين الإسبان خرجوا ابتداء من الأسبوع الماضي إلى شوارع المدن الرئيسية في احتجاجات عارمة للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية ذكرت المراقبين بالاحتجاجات التي تعرفها بعض المدن العربية. في مدريد مثلاً يتداول المحتجون على الاعتصام في ساحة "لابويرتا ديل صول" (Puerta del Sol) حيث نصبت خيام عديدة على شاكلة ما يجري في برشلونة وغيرها من مدن البلاد كما انتقلت العدوى إلى خارج حدود إسبانيا، حيث شملت الإسبانيين المغتربين الذين تظاهروا أمام سفارات بلادهم أو في الساحات الكبرى لمختلف عواصم العالم. ماذا يجري بالضبط في هذه البلاد الواقعة جنوب أوروبا والتي لا تبعد عن المغرب إلا بمسافة بحرية قليلة جدّاً؟ دخلت إسبانيا نادي الدول الديمقراطية في إطار ما كان يسميه صومويل هنتينغتون بديمقراطيات الموجة الثالثة، مباشرة بعد وفاة الجنرال فرانكو وإعلان خوان كارلوس في 22 نوفمبر 1975 ملكاً لإسبانيا، وسنوات بعد ذلك وبالضبط مع دستور 1978، أصبحت إسبانيا دولة قانون اجتماعية وديمقراطية تحت نظام ملكي برلماني، بعد أن عاشت نظاماً شموليّاً في عهد فرانكو. ولاشك أن الانفتاح الاقتصادي الذي عرفته إسبانيا سنوات بعد موت فرانكو كان أحد الأسباب الذي جعل اقتصادها يعرف نجاحاً باهراً؛ وفي سنة 1974، شكلت الصادرات الإسبانية ما يناهز 10.7 في المئة من الناتج الداخلي الخام؛ كما أن التوقيع على اتفاقية تعاون مع المجلس الاقتصادي الأوروبي كان له أكبر الأثر في تقوية اقتصاد إسبانيا وديمقراطيتها الفتية. ولعل تأثير المناخ الديمقراطي لدول الجوار على إسبانيا نموذج من النماذج الأربعة في الانتقالات الديمقراطية التي تحدث عنها بعلمية متميزة منظر الانتقالات الديمقراطية "خوان لينز" مع منظرين آخرين كـ"كلاري ديامون" و"سيمور ليبست" خاصة في كتابهم الذي أنصح بقراءته كل متتبع لآاليات الانتقال الديمقراطي وضوابط العالمية: (Démocratie and Developing Countries, 4 vol. Boulder , 1988) وهذه النماذج هي على التوالي: حدوث انتقال ديمقراطي عن طريق أزمة حربية أو تدخل أجنبي؛ ثورة بسبب أزمة اقتصادية أو غيرها؛ استراتيجيات اللاعبين السياسيين في إطار ما يسمى بالميثاق السياسي، وأخيراً تأثير المناخ والدول المجاورة. وهذا ما يفسر بالضبط أن التكتلات الجهوية إذا أحكم تسييرها وأجادت الدول النواة فيها أخذ زمام المبادرات الاقتصادية الجريئة مقرونة بشروط الانفتاح السياسي والحكامة الجيدة تجعل الدول الفتية التي ولجت الركب التكتلي تضطر إلى السماح لمزيد من الانفتاح الديمقراطي مقابل إشباع حاجاتها الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن تقع النقطة التي من خلالها تنهار القواعد السلطوية أو الديكتاتورية وتجعل الدولة تدخل في مصاف الدول الديمقراطية الكبرى، وإسبانيا أكبر مثال على ذلك؛ وقد تحدثنا في مقالة الأسبوع الماضي عن دور ما أسميه بالدول النواة في أي تكتل إقليمي أو جهوي، وبغيابه لا يمكن أن يكتب له النجاح، أو أن كل البرامج التعاونية بين مختلف البلدان ستدور في حلقة مفرغة، وهذا ما يفسر مثلًا فشل مسلسل برشلونة، وفيما بعد "الاتحاد من أجل المتوسط". والحال أن إسبانيا استفادت كثيراً من قواعد المنظومة الأوروبية وأصبح اقتصادها جاذباً للمستثمرين الأوروبيين والأجانب، وشجعت موازاة مع ذلك البنيات السياحية حيث ما فتئ الملايين من الأوروبيين ومن بقية العالم يزورون مدنها الشاطئية على مدار السنة، وهو ما خلق الملايين من مناصب الشغل والخدمات الموازية. وهكذا في أواخر تسعينيات القرن الماضي عرف الناتج الداخلي الخام نموّاً سنويّاً بما يزيد عن 3.5 في المئة وبأكثر من 4.1 في المئة سنة 2000 وشكلت مستعمرات إسبانيا السابقة في أميركا اللاتينية وبالأخص في الأرجنتين جنة النعيم للعديد من الشركات الإسبانية متعددة الجنسيات. ولكن مع الأزمة الاقتصادية العالمية بدأ اقتصاد إسبانيا يعاني من مشاكل خطيرة انطلاقاً من موقع الإنتاج والمنافسة في النظام الاقتصادي الأوروبي والمتوسطي والعالمي؛ حيث إن الموقع الجغرافي الذي تحدث عنه بذكاء "آلان ج. سكوت" (Alain.J. Scott) في الكتاب الجماعي عن "اقتصاد القرن الحادي والعشرين: آفاق اقتصادية- اجتماعية لعالم متغير" لم يعد يمنح ميزة استراتيجية لإسبانيا (الركود التجاري والاقتصادي في دول أميركا اللاتينية -الأزمة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي)؛ وظهرت موازاة مع ذلك مشاكل متعددة كالتسنيد والاستدانة المفرطة بالنسبة إلى الأموال الخاصة خصوصاً لدى مصارف الأعمال، والجو الاستثماري المفرط في التفاؤل الذي كانت تصيح به الحكومة الإسبانية مع بعض "التزوير في الأرقام"، والتخلف عن الضوابط المعمول بها في أقوى الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، والتحايل على القانون وصولاً إلى درجة الاحتيال حتى أصبحت المشتقات وصناديق الوقاية شبيهة بأعمال المقامرة ... وهكذا فإن انعدام الشفافية والجشع والغش والدفاع عن جو استثماري مفرط في التفاؤل والاحتيال أدت مجتمعة إلى خلق الأزمة الاقتصادية الإسبانية الحالية والانفجار الذي كان لابد منه؛ فارتفعت البطالة ارتفاعاً قياسيّاً الشهر الماضي وذلك بثمانية أعشار نقطة مئوية إلى عشرين نقطة ونصف نقطة مئوية حسب البيان الرسمي الصادر عن وزارة العمل، الذي أضاف أن عدد العاطلين الإجمالي يبلغ أربعة ملايين وثلاثمائة وثلاثين ألف شخص مما يمثل أكبر عدد يسجل في تاريخ الإحصاءات. إن البطالة هي الشغل الشاغل للإسبان وارتفاعها أضعف كثيراً شعبية رئيس الوزراء الاشتراكي الذي أعلن أنه لن يترشح لولاية ثالثة، ويبقى أن الأزمة الإسبانية خلافاً، للأزمة اليونانية، ستكون لها تأثيرات حتى على الدول الأوروبية ودول المغرب العربي، حيث مهاجرون كثر يعملون في مجال البناء والفلاحة ويقدرون بالآلاف، فالأزمة قادمة لا محالة.