أثارت وقائع الانتفاضة المصرية في ميدان أو قل "ميادين التحرير" عديداً من المفكرين على مستوى عالمي وإقليمي، بعضهم كتب بانفعال مباشر مع الحدث، وبعضهم صمم على زيارة القاهرة، مثلما رأيت عديداً من السياسيين وخاصة الغربيين؛ يفعلون ذلك. وقد لاحظت بنفسي حرص الأصدقاء من أنحاء أفريقيا على هذه الزيارة بدورهم، بعد ما قرأوه أصلًا في وسائل الإعلام المحلية والعالمية عن هذا الحدث الكبير. لذلك قد لا نكرر هنا كيف انعكست صورة مصر أو تونس في هذا الإعلام بكل هذه المودة، وقد كتبت عن ذلك من قبل، بل الجديد أن ثمة أسى أفريقياً ملحوظاً على انهيار الموقف بهذا الشكل في ليبيا؛ ليتحول إلى تدمير البلاد!. ما يهمنا هو تحول الظاهرة العربية في الشمال الأفريقي إلى مجال تأمل حول المشترك بين العربي والأفريقي في هذه التطورات. وفي تقديري أنها لحظة تاريخية سيتذكرها العرب حين يجدون أن عناصر العولمة التي يركنون إليها الآن، وقد تحولت إلى عوالم مختلفة قد لا يكونون في أحضانها ساعتئذ، ومن ثم يصبحون في حاجة إلى شبيههم القديم، أراه في أفريقيا، تارة وفي آسيا تارة أخرى، بل وقد تكون مرحلة لعولمة جنوبية شاملة يحتاج فيها العرب إلى التشابك مع هذه القوى، فلا يجدوا إلا الحليف الأفريقي ليضمنوا بقاءهم! من هنا أثارني الحوار مع المفكر الأوغندي "محمود ممداني" خلال زيارته لمصر أوائل مايو الجاري، حيث جاء لإلقاء بعض المحاضرات بها، بل وأثارتني مسارعته للكتابة في أكثر من موقع عن تجربته في القاهرة بعنوان "تأملات أفريقية حول ميدان التحرير". وليس "محمود ممداني" جديداً على الثقافة العربية، كما أن معرفتي به ليست جديدة، حيث كانت لي معه رفقة لأكثر من ثلاثة عقود في مجال العلوم السياسية الأفريقية حيث كان أستاذا ًفي جامعة دار السلام (1975) ثم مناضلاً ضد عيدي أمين، ووزيراً، ثم أستاذاً في أكثر من جامعة أفريقية وأميركية حتى عاد أخيراً مديراً لمركز البحوث الاجتماعية بجامعة "مكاريري" بأوغندا. وخلال كل ذلك كتب بعمق عن تطورات جنوب أفريقيا، وأحداث الكونغو ورواندا، كما كتب تحليله المعروف في كتابه عن دارفور (المترجم إلى العربية) شرح فيه الصراع الاجتماعي قبل العرقي في السودان. وإلى جانب ذلك كتب "المسلم الصالح والمسلم الطالح"، (الذي نشر أيضاً بالعربية)، رداً على تحليلات دوائر الحرب الباردة والسائدة أميركياً عن الإرهاب. ويقدم "محمود ممداني" دائماً رؤية من الواقع الأفريقي، والعربي، فيها تفهم لما يفرضه هذا الواقع وليس ما تفرزه علوم الاستشراق أو الأنثروبولوجيا الكولونيالية. من هنا يبدأ "ممداني" رؤيته لميدان التحرير، من منظور آخر يراه مختلفاً عما شاع لدى محللين غربيين كُثر، فهم يرصدون الثورات العربية "ضمن موجة "الثورات الملونة" في أوروبا الشرقية بعد سقوط السوفييت لأنها تتفق مع تاريخهم وطريقتهم لكن ممداني ينظر هنا من أقصى الجنوب الأفريقي وبمنطور مجتمعي؛ حيث وقعت ثورة "سويتو" الشبابية هناك عام 1976، ويركز على شعارها السياسي حول مفهوم العدالة. ويبدأ "ممداني" بملاحظة طريفة عن رد فعل بعض الحكام الأفارقة على ثورات مصر وتونس مثلاً، فيرى أنهم فزعوا من كونها ثورة سياسية وشاملة، لكنها لم تلجأ للعنف أو السلاح، ومعنى ذلك أن التحرك السلمي للجماهير صار له قوة العنف المسلح، فكيف حدث ذلك في بلد مثل أوغندا، وقوة الفعل السياسي المعارض فيها خاصة بعد أن صرح رئيسها أن ما حدث في مصر لا يجدي في أوغندا. وقد رفعت المعارضة هناك شعاراً بات معروفاً أيضاً، هو "المشي إلى العمل" Walk to work! وذلك في عملية احتجاج واسعة على رفع أسعار الوقود فجأة، وبنسبة عالية، فما كان من قوى المعارضة إلا أن قررت توجيه جماهيرها إلى الذهاب لأعمالهم مشياً!. ويذكر "ممداني" بالتفصيل كيف انزعج الحكم وقادة الشرطة إلى حد جلب بعض المشاة لدائرة العقاب إذا تحققوا أن لديهم السيارات (وخاصة القادة السياسيين) بما جعل المشهد مثيراً للألم والفكاهة معاً! ثم يعرج "ممداني" على انطباعات مثقفي شرقي أفريقيا، الذين ذهب معظمهم إلى الإشارة أيضاً.. مثل الغربيين- إلى "الثورات الملونة" بسبب اعتقادهم أنه لا تتوفر عناصر الوحدة المجتمعية مثلما تحقق في مصر في ميدان التحرير. من بعد ذلك يأتي تركيز "محمود ممداني" على تجربة شباب جنوب أفريقيا في "سويتو" 1976. وقد شهدت انتفاضة سويتو التي سقط بعدها بعقد ونصف نظام الأبارتيد، خيالاً جديداً، أحدث التعبئة الشعبية على نطاق واسع بفضل الفلسفة التي ارتبطت بالانتفاضة باسم "الوعي الأسود". وفي تقدير "ممداني" أن عنف الكفاح المسلح الذي رفع شعاره حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، كان يؤدى بالضرورة إلى النخبوية لأنه يختار كادراً معيناً بتدريب معين، وتقبله عناصر معينة، بل وكان من حوله عملية عزل لكفاحات متعددة من قبل كل فريق في الأمة، السود، الملونون، الهنود، البيض.. لكن قيادة "ستيف بيكو" الشاب لجماهير "سويتو"، انطلقت بقدرة شابة هائلة (تساءل "ممداني" تُرى كم "بيكو" ظهر في ميدان التحرير!)، تحاول تعميم الفكرة النضالية لتكون جامعة، ولأنها ثورة الشعب الأسود ضد الأبارتيد فقد كان شعار "الوعي الأسود" توحيدياً وسياسياً، وظل كذلك حتى سقط نظام الأبارتيد نفسه. والزعامة الشابة في "سويتو" كانت مثل "قرنق" في السودان الذي جعل العربية ثقافة قومية ممكنة لسودان موحد جديد. وقد رأى "ممداني" أن ميدان التحرير يجتمع مع "سويتو" في ثلاث خصال: أنه مرحلة جديدة أبعد من مجرد رومانسية الشباب تجاه العنف. هذه الرومانسية التي ارتبطت بفلسفات حركات التحرير الوطنية بعد الحرب الثانية ودعم عبد الناصر لها. وهي رومانسية قرأ "ممداني" في إطارها راديكالية "القومية العلمانية" وفلسفة "سيد قطب في معالم على الطريق. وفي إطار قطبي التطرف القومي العلماني والديني، نشأ الفصل بين الثقافي والسياسي مبكراً في العالم العربي. وتفاصيل ذلك مثيرة في دراسة "ممداني" لا يتسع المجال لها. لكن "ممداني" سرعان ما ينتقل من تحليله عن منطقتنا ليعود إلى عملية الإقصاء التي يفرضها علينا التفكير في الغرب، إقصاء ناتج بدوره من رؤيتنا- بوجهة نظرهم وحدهم- حول الثقافة والسياسة. فكل سياسة تعكس ثقافة ما، والثقافة الحديثة وحدها عندهم تعكس الديمقراطية، أما الثقافة "قبل الحديثة" فلا تتمظهر في نمط ديمقراطي بل هي دائماً رافضة للآخر، وتلجأ إلى العنف، المسلح منه وغير المسلح. وهذه الثقافة "قبل الحديثة" هي ما يشاع في العالم العربي وأفريقيا، لكن الأفريقي عند الغرب قابل للتعلم والتغير، أما العربي، المسلح فغير قابل لذلك، ليظل العالم دائما عالمين. هنا كانت انتفاضة "سويتو" 1976 مثل انتفاضة ميدان التحرير 2011 ظاهرة جديدة ومناهضة للتحليلات الغربية المألوفة. فكلاهما عبر عن وحدة الجماهير الشعبية وحدة سياسية، تجاوزت العرق والقبيلة في سويتو، وتجاوزت الدين في مصر. وقد أجبرت تطورات "التحرير" مثل "سويتو" العالم الغربي على إعادة التفكير في معنى "الأفريقي"، "والعربي" اللذين كانا عندهم من "طبيعة ثانية" لا تستطيع العيش في سلام مع الغير، بل وتقوم ثقافة العرب على التمييز. لكن ممداني رأى في التحرير قوة توحيد لا إقصاء مثلها مثل سويتو. وإن كان "الدين" لم يُنح تماماً خلال ما جرى في التحرير، ولكن الفضاء العام اتسم بالتسامح، لنقل من الإقصاء إلى الاندماج، وحيث كان العنف السائد مع الأقباط من قبل من فعل السلطة الحاكمة. إن ثقافة حديثة وديمقراطية جديدة. في رأي "ممداني" كفيلة أن تخلق ثقافة وطنية تحترم الهوية- المواطنة في مشروع ثقافي سياسي جديد. لذلك فإن محمود ممداني لم يتجاوز كثيراً فترة "ميدان التحرير" في يناير 2011، وبدا أنه يتلمس المستقبل بحرص ملحوظ، لذا جاءت خلاصته عن أن ما حدث في مصر ليس ثورة ولكنه إصلاح وهذا – في رأيه- جيد في حد ذاته، لأنه قوة معنوية "للاعنف" ويمهد لسياسة اندماج وطني، إنه قوة للقيمة الذاتية للجماهير، ومطلوب إصلاح "الدولة" ذاتها، بالمواطنة والحقوق المتساوية.