من الإشكاليات المطروحة بقوة على التشكيلات الإسلامية التي دخلت مجال الشرعية السياسية بعد اندلاع التحولات العربية الأخيرة تحديد طبيعة "الدولة الإسلامية" المنشودة في سياق منطق الشرعية الديمقراطية. هل تستند هذه الدولة لشرعية لاهوتية بأي معنى من المعاني (الحاكمية الإلهية، تطبيق الشريعة...) أم لشرعية العقد الاجتماعي واختيار الأمة؟ لا يبدو أن الخطاب الإسلامي المعاصر قد بلور إجابة منسجمة وصريحة على هذا الإشكال، الذي يتطلب بداية تحديد علاقة الدين بالسياسة في المرجعية التاريخية للمسلمين، باعتبار هذه المرجعية هي دوماً خلفية النظر ومعيار التقويم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الصورة السائدة في المسألة هي امتزاج الديني بالسياسي في الإسلام، على عكس المسيحية التي اعتبرها "ماكس فيبر" و"مارسل غوشيه" ديانة "الخروج من الدين" لأسباب تتعلق ببنيتها العقدية (مفهوم التجسد) وتجربتها التاريخية (كديانة ظهرت خارج الدولة، ولم يكن لها مشروع سياسي أصلي). ومن الواضح أن هذه القراءة السياسية للإسلام تستند لعناصر ثلاثة جلية البروز: نظام الخلافة الموروث عن النبوة بصفته مظهراً للتداخل العضوي بين الديني والسياسي، وجود مدونة قانونية مفصلة تتعلق بشؤون الأفراد والأمة لها مصدر ديني لا لبس فيه، إجماع فقهاء الإسلام إجمالاً على وجوب نصب الدولة وإناطة حفظ الدين والدنيا بها. بيد إننا إذا استثنينا الموقف الشيعي الذي اعتبر أن الإمامة من متعلقات العقيدة (وان كانت هذه الفريضة معلقة في عصر الغيبة)، فإننا لا نجد في الفكر السياسي الإسلامي لا التصور اليوناني للمدينة المجسدة لنظام الطبيعة في الشأن البشري المشترك، ولا التصور الفارسي للدولة التوأم للدين (على الرغم من استعارات الفلاسفة والكتاب العرب من التراث الفارسي-اليوناني ). وباستخدام النموذج الذي بلوره عالم الاجتماع الألماني "جاكوب توبس" لدراسة اللاهوت السياسي للديانات التوحيدية (بالانطلاق من محددات ثلاثة هي الثيوقراطية والثنائية والتمثيل)، يتبين غياب مفهوم الدولة الدينية في الإسلام، والفصل الجلي بين المؤسستين الدينية والسياسية، ورفض فكرة تجسيد الديني في إشكال سياسية، لأسباب عقدية عميقة تتعلق بالتجربة النبوية المؤسسة التي تقدم نموذجاً مفارقاً غير قابل للتكرار، ولعدم إمكانية تصور تمثيل بشري لنظام إلهي لا يماثل النظام الإنساني في شيء. تلك هي الحقيقة التي انتبه اليها "عبدالله العروي" في دراساته المعمقة للتجربة السياسية الإسلامية، عندما بين أن الفكر الإسلامي الوسيط جمع بين تصورين متعايشين للدولة: الخلافة كطوبى غير قابلة للتحقق في عالم البشر (دولة الفضيلة والقيم والعدالة بمفهومها الأخلاقي)، والدولة القهرية الواقعية (المنبثقة من حالة الطبيعة). ولن تفيدنا في شيء كتابات "الأحكام السلطانية"، التي هي مجرد مدونات إجرائية لتقنين نظم الدولة القائمة بالالتفاف على أشكال الشرعية باختزاله في كفاءة احتكار العنف وعدم الخروج عن المظلة العقدية العامة للأمة (إقامة الحدود وعدم ظهر الكفر البواح). فالفقيه – على غرار الماوردي- "توصل تلقائياً إلى رسم صورة لا تختلف كثيراً عما يستخرج منطقياً من مفهوم الدولة"، حسب عبارة العروي. وتعني هذه العبارة أن فقيه الأحكام السلطانية يكتفي بإضفاء الشرعية على الدولة القائمة، التي تعددت وتنوعت تاريخياً أشكالها وصيغها السياسية والتنظيمية. كان "محسن مهدي" قد ذهب في دراساته الرائدة حول الفلسفة السياسية في الإسلام إلى أن المفكرين المسلمين ترجموا كتابات أفلاطون السياسية وتبنوها لاشتراكها مع التصور الإسلامي في فكرة النظام الخير في المدينة القائم على معرفة صائبة بالإلهيات والطبيعة (في حين تبنى المسيحيون أرسطو، فانتهوا لاحقاً إلى فكرة الفصل بين الدين والدولة). وإذا كان هذا الحكم يصلح على الفلاسفة من صنف الفارابي (الذي حقق مهدي أعماله وكتب حولها دراسات قيمة)، فإنه لا يصدق على الفقهاء والمتكلمين وغيرهم من علماء الإسلام الذين كانوا فاعلين في الحركية السياسية تنظيراً وممارسة. وحتى لو نفذت بعض مقولات الفلسفة اليونانية إلى الخطاب الإسلامي (خصوصاً في كتابات مرايا الحكام)، فإن الفقهاء لم يأخذوا في الغالب بفكرة "الوحدة العضوية للكيان الاجتماعي"(الهوية السياسية للإنسان كحيوان مدني)، ولم يأخذوا بفكرة القانون الطبيعي المرتبطة بها (القانون كتعبير ثابت عن حقائق الطبيعة)، بل إن الفكر السياسي الإسلامي تبنى بوضوح مقولة "العقد" في دلالتها القانونية الإرادية المفضية إلى نظام اجتماعي مخترع للخروج من الفتنة وحفظ السلم والأمن الجماعي، مما يقترب كثيراً من تصورات فلاسفة الأنوار (هوبز خصوصاً) لحالة الطبيعة ومقتضيات الخروج منها. تتضح هذه الصورة في إجماع أهل السنة على أن الإمامة عقد وبيعة بالتراضي، (وإن تمت غالباً بالإكراه)، وبفصلهم بين نظام الوجود الطبيعي ونظام القيم الذي تستمد منه التشريعات الوضعية (أي أحكام الفقه التي يصنعها الفقهاء تأويلا واجتهاداً). وإن كانت مرجعية هذه التشريعات نصية، فإن معيار قبولها الأساس هو "إجماع" الأمة المعصومة، (مما يمهد لفكرة القانون كتعبير عن شرعية التعاقد الجماعي). ويرتبط بهذا التصور الاصطناعي الإرادي للمجتمع المنظم فكرة العدالة بمعناها التوزيعي كإنصاف، ما دام المتعاقدون متساوين في الحقوق والواجبات، (على عكس التصور اليوناني للعدالة كترتيب للكائنات بحسب تراتبها في نظام الوجود). ليس من غرضنا التعسف في تأويل هذه التصورات الإسلامية بإطلاق سمة الحداثية عليها، فالفرق جلي بين الواقع التاريخي للدولة الإسلامية الوسيطة والدولة المدنية الحديثة، بيد أنه من المؤكد أن الفكر الإسلامي الوسيط أزال كل العوائق النظرية والابستمولوجية التي تحول دون المقاربة التعاقدية الإجرائية للدولة الحديثة: بتقويض الكوسمولوجيا الضروراتية الغائية اليونانية، وبالتخلص من القهرية الميتافيزيقية التي أخذت أحياناً بطريقة خادعة شكل الحرية الإنسانية (تحديد مستوى وجودي وعقلي ثابت تتقيد به أفعال الله والعباد). وبما أن الفرق الكبير بين الدولة الوسيطة والدولة الحديثة هو البناء البيروقراطي العقلاني غير المتعين للدولة الحديثة، فإن المراجعة المطلوبة في الفكر الإسلامي يجب أن تتحدد في هذا المستوى الذي نادراً ما يتم اعتباره.