شهدت السنوات الأخيرة بزوغ مجال جديد في العلوم الطبية هو مجال الصحة العقلية الدولية (Global Mental Health) المعني بإجراء الدراسات والبحوث لتحديد أفضل الممارسات القادرة على تحسين الصحة العقلية من المنظور الدولي، ولتحقيق المساواة على صعيد نوعية وتوفر العلاج للمصابين بهذه الطائفة من الأمراض. ويأتي ظهور هذا المجال الطبي الجديد استجابة للإدراك المتزايد لمدى فداحة الثمن الصحي والإنساني والاقتصادي للأمراض العقلية. وفداحة هذا الثمن تتضح من حجم العبء المرَضي الذي تضعه الأمراض العقلية على كاهل شعوب ومجتمعات العالم، وعلى نظم الرعاية الصحية المنوطة بعلاجها. ويشير مفهوم أو مصطلح "العبء المرضي" (Disease Burden) إلى تأثير مشكلة صحية في منطقة ما على صعيد عدد الوفيات، وعلى حجم الإعاقات التي تتسبب فيها، بالإضافة إلى التبعات الاقتصادية التي تنتج عنها. وهو ما يعني أن العبء المرَضي لمرض ما هو مؤشر يجمع ما بين عدد من يقتلهم هذا المرض وعدد من يتسبب في إعاقتهم -مؤقتاً أو دائماً- بالإضافة إلى الثمن الاقتصادي الناتج عن هذا المرض المتمثل في تكلفة جهود الوقاية والتشخيص والعلاج، وفي حجم فاقد الإنتاج بسبب الوفاة أو الإعاقة، وغيرها كثير. وتعتبر الأمراض العقلية مسؤولة عن 14 في المئة من العبء المرضي العالمي. وبين طائفة الأمراض غير المعدية، تعتبر الأمراض العقلية مسؤولة عن 28 في المئة من سنوات العمر المقضية في ظل إعاقة، وهي نسبة تزيد عما تسببه أمراض القلب والشرايين، أو الأمراض السرطانية. وحتى على رغم ضخامة هذه الأرقام والنسب، يقتنع البعض بأن حجم العبء المرضي الناتج عن الأمراض العقلية أكبر من ذلك بكثير نتيجة تأثر وتفاعل هذه الطائفة من الأمراض مع أنواع أخرى من الأمراض الجسدية. ويعتبر الانتحار من أبسط الأمثلة لإظهار مدى قوة التأثر والتفاعل بين الحالة العقلية والحالة الجسدية، حيث يلقى حاليّاً حوالي مليون شخص حتفهم منتحرين بسبب مرضهم النفسي أو اضطرابهم العقلي، وهو ما يضع الانتحار في المرتبة الثالثة على صعيد قائمة أسباب الوفيات بين الشباب. وبخلاف الموت المفاجئ الناتج عن الانتحار تتسبب الأمراض العقلية في وفيات مبكرة تؤدي حرفيّاً إلى تقصير عمر المصابين بها، بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذه الحقيقة أكدتها مرة أخرى دراسة نشرت هذا الأسبوع في إحدى الدوريات المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية كان قد أجراها علماء مركز الأبحاث البيولوجية الخاص بالأمراض العقلية التابع لأحد مستشفيات العاصمة البريطانية. وقد أظهرت النتائج أن المرضى المصابين بأمراض عقلية خطيرة مثل الفصام (الشيزوفرينيا)، أو الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder)، يقل متوسط أعمارهم بمقدار عشرة أو خمسة عشر عاماً، مقارنة بمتوسط الأعمار في بريطانيا، والبالغ 77.4 عام للرجال، و81.6 عام للنساء، حيث تتوفى مثلاً النساء المصابات بالفصام في متوسط عمر أقل بسبعة عشر عاماً من المتوسط العام لأعمار النساء، بينما يتوفى الرجال بمتوسط عمر أقل بخمسة عشر عاماً من المتوسط العام لأعمار الرجال. وهذه الوفيات المبكرة لا تنتج من جراء الانتحار أو العنف كما قد يتبادر للذهن من الوهلة الأولى، وإنما من أمراض لا ترتبط بشكل مباشر وواضح بالحالة النفسية والعقلية مثل الذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، والأمراض السرطانية. ولكن ما الذي يجعل مريضاً بالفصام، أو باضطرابات المزاج، عرضة للإصابة والوفاة بالسرطان أو بالذبحة الصدرية، بمعدلات أكبر من الأشخاص الأصحاء نفسيّاً؟ إجابة هذا السؤال، أو بالأحرى الإجابات المختلفة التي تطرح، تظهر مدى تعقيد تأثير الأمراض العقلية على حياة الأشخاص المصابين بها. فبداية، يقترح البعض أن السبب ربما يكون الأعراض الجانبية الناتجة عن العقاقير التي يتناولها هؤلاء المرضى لعلاج حالتهم، والتي ربما يضطرون لتعاطيها لسنوات وعقود طويلة، لتخفيف أعراض المرض ليس إلا، دون أن يكون هناك أمل في شفائهم التام وتخلصهم من مرضهم. والاقتراح الآخر لإجابة هذا السؤال يتعلق بمدى قدرة هؤلاء المرضى على العناية بأنفسهم، من خلال اتباع نمط حياة صحي يتضمن غذاء متوازناً، وممارسة نشاط رياضي، في الوقت نفسه الذي ترتفع لديهم فيه معدلات السلوكيات غير الصحية مثل التدخين بشراهة، أو الإفراط في تناول الكحوليات، وربما أيضاً تعاطي المخدرات. وبالإضافة إلى أن هؤلاء المرضى لا يهتمون -أو ربما لا يدركون- خطورة الموقف، عندما تظهر عليهم الأعراض الأولية للإصابة بأحد تلك الأمراض، وحتى إن أدركوا فغالباً ما يتقاعسون عن طلب المساعدة الطبية، أو لا يلتزمون بما وصف لهم من علاج. وربما كان أخطر الإجابات على التساؤل السابق، وأكثرها أسفاً، هو اقتراح البعض أن أفراد المجتمع الطبي -وربما حتى الأهل والأسرة- لا يهتمون كثيراً بالحالة الصحية الجسدية لهؤلاء المرضى، في ظل المشكلة الصحية النفسية الخطيرة التي يعيشون تحت سحابتها، وتتطلب فترات طويلة من العلاج، ومسؤولية ضخمة في الرعاية الشخصية، التي غالباً ما يضطلع بها الأهل والأصدقاء. ولكن مهما كانت الإجابة، ليس من المقبول أن يحظى مرضى الأمراض العقلية والنفسية بمتوسط أعمار مشابه لمتوسط الأعمار خلال بداية القرن الماضي، على رغم التطورات والاختراقات الطبية التي تحققت خلال هذه الفترة، وليس من المقبول أن تصبح الإصابة بمرض عقلي أو نفسي عامل خطر أكثر تأثيراً تجاه احتمالات الوفاة المبكرة مقارنة بعوامل خطر أخرى مثل التدخين، أو السمنة وزيادة الوزن، أو حتى الإصابة بداء السكري!