كم من الوقت مضى على وفاة أمل دنقل الذي أتت ذكرى وفاته قبل يومين، وكم من الإبداع والشعر الجميل قال قبل أن يصدق أن التغيير قد حط رحاله عند أبواب وطنه وتغلغل في التفاصيل. شعب عظيم أنجب شاعراً كأمل دنقل... حياة هذا المبدع المثقلة بالهموم والمرض والقصائد المسجاة على تاريخ الأمة، جعلت منه شاعراً مختلفاً، حتى في أفكاره وفي استدلالاته التاريخية، التي تكشف ثقافة نوعية أعطت لقصائده زخماً من ثراء المعنى والمدلول. هذا الشاعر لم يأخذ حقه في الاحتفاء، ولم تعرف قصائده كما عرفت قصائد غيره، ربما لأنه رحل باكراً، ولم يجد أحداً يرعى إرثه أو يسوق قصائده الموجوعة بالأسى والغياب. فلو عاش أمل دنقل لما قال الشعر، ولتوقف نزيف الحزن والخيبة، التي تنز من جوانب قصائده، لكان احتفاؤه بما يدور من أحداث مختلفا مفاجئاً وبريئاً من أية شبهات، ربما لم يحتج للكلمات، لكي يرمي بثقل أحزانه خط خارج أسوار قلبه. هؤلاء الشعراء الذين سجلوا تاريخ أوطانهم، وكانت قصائده شاهد إثبات على صدقهم، وعلى أنهم لم يطلبوا شيئاً، كان احتراماً لفكر شريف، لا يرى أبعد من صالح الوطن وحده الوطن. فأي شاعر كتب من المديح مايسيء له وما يضحك لم يبق اسمه، وربما بقيت قصائده البعيدة عن ديباجات واهية. لماذا يتعامل الشعراء مع تاريخهم بازدراء؟ لماذا لم يتعلموا بعد أن كل ما يكتبون هو وثيقة ضدهم إنْ كانت من نوعية النداء المراوغ؟ فماذا يبقى للإنسان إن كرس حياته مداهماً ومنظراً لأشياء غريبة؟ وهذا ما ينسحب على الكُتّاب والمثقفين الذين سقطوا اليوم في فخ المراء والتضاد مع مبادئ أو قيم وردت في مقالاتهم وأشعارهم. وربما ذهب البعض أيضاً مع الريح بمجرد نصرتهم لنظام يسفك دم أبناء شعبه لأنهم طالبوا بالحرية. هذه الفئة لا تستحق أن يذكرها التاريخ أو أن يحتفي بإبداعاتها، فالمثقف هو نبض حي لضمير أمته وإنْ كانت مواقفه عكس ذلك، فهذا يدل على سقوطه في هاوية النهاية. والمضحك أن يتبنى المثقف موقفاً بأوامر عليا، وبعد فترة تنعكس هذه الأوامر لتسير في الاتجاه المضاد... هنا بسرعة فائقة تتكشف عورة هذه الأوهام التي يسعى البعض لحياتها وفق ما يشتهي غيره. ما أقصر عمر الكذب، وما أسرع الانزلاق نحو الدروب المغلقة دون المزيد من الأكاذيب. رحم الله أمل دنقل ومن سبقه، ومن لحقه من شعراء جعلوا كلماتهم حكمة وصدقاً بلا أدنى ريبه هؤلاء هم نبض حي حتى وإن فارقوا الحياه يظلون بقصائدهم أحياء. هم متوازون مع هموم أهليهم، مكابدون أحزانهم ومشاركون في منظومة من القيم تجعل من الشاعر حالة فذة من الانتماء والالتزام الوطني المعافى من المداهنة. فلا أجمل من الصدق خاصة إذا كان شعار أصحاب الثقافة والشعر، فلا تلتقي المشاعر الصادقة بأكاذيب واهية كبيت عنكبوتي ضال.