مثلت ردود الفعل على خطاب أوباما حول التطورات التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط تذكيراً لافتاً بمدى عمق وإزعاج الانفصام في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية- العربية، والمدى الذي أصبحت به السياسة في الولايات المتحدة مختلة. وبالنظر إلى السياق التاريخي، أي التغيرات الدراماتيكية التي تحدث عبر العالم العربي؛ ومقتل بن لادن؛ وفشل عملية السلام العربية الإسرائيلية في وقت يقترب فيه موعد سبتمبر الذي كان الرئيس قد حدده ذات يوم لقيام دولة فلسطينية؛ ودعوة قيادة جمهوريي الكونجرس لنتنياهو لإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة للكونجرس، فقد وجد البيت الأبيض أن هذا هو الوقت المناسب ليلقي الرئيس خطاباً يؤطر رؤية شاملة لسياسة إدارته الشرق الأوسطية. والواقع أنه كان جهداً كبيراً يستحق التقدير، ولكن أسئلة راودتني وأنا جالس بقاعة بنيامين فرانكلين في مقر وزارة الخارجية الأميركية أستمع إلى الرئيس من قبيل: "من هو الجمهور المقصود"؟ و"كيف سيُستقبل هذا الخطاب من قبل الجماهير العديدة التي ستستمع إليه"؟ إذا كان موجهاً إلى جمهور أميركي، فقد كان خطاباً مفيداً؛ ذلك أن تحليل الرئيس للربيع العربي كان مدروساً ورصيناً وطرح عدداً من التحديات، وكذلك الحال بالنسبة لتصميمه على "إعادة إطلاق" العلاقات مع الشرق الأوسط الكبير في أعقاب التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة. ومن خلال احتضانه لـ"أجندة الديمقراطية" وتركيزه على الحاجة إلى التنمية الاقتصادية والمشاركة الشعبية. كما طرح أوباما جانباً الخطاب الفارغ غير الصادق الذي كان يتبناه المحافظون الجدد والتفاهات المتعلقة بـ"الإسلاموفوبيا"التي كانت تسيطر على معظم اليمين وأصابت أيضاً جزءاً من اليسار. صحيح أن الكونجرس الحالي قد لا يميل إلى التصرف على نحو يدعم مبادرات الرئيس، بما قد يحكم عليها بالفشل حتى قبل أن تتجسد؛ إلا أنه كان من المهم أن يتحدى أوباما الكونجرس حتى يترجم الأقوال إلى أفعال ويقدم الدعم والمساعدة؛ وذلك لأن السياسيين قد يتحدثون طوال الوقت عن مزايا الديمقراطية وأهميتها؛ ولكن حين يتعلق الأمر بدعم بناء القدرات وخلق الوظائف الضروري لدفع المجتمعات التي تعيش مرحلة انتقالية، فإنهم سرعان ما يديرون ظهورهم. وقد كان أيضاً خطاباً متواضعاً اعترف فيه الرئيس، أحياناً بشكل ضمني وأحياناً أخرى بشكل صريح، بالحدود والإكراهات التي تواجهها الدبلوماسية الأميركية في المنطقة، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة لم تصنع الربيع العربي، مثلما أنها لا تستطيع أن تدير مساره، وكل ما تستطيع القيام به هو مساعدة الديمقراطيات الناشئة ودعمها بالموارد. وعلى رغم الطابع الصريح والمباشر الذي كان عليه حديث أوباما عن أجندة الديمقراطية هذه، إلا أنه كان أكثر غموضاً بخصوص طريقة تناوله للموضوع الذي استأثر بأكبر قدر من الاهتمام لاحقاً: النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. لقد كان جهداً شجاعاً حاول فيه تحديد علامات ومحددات لنتنياهو ساعيّاً في الوقت نفسه إلى عدم الدخول في مواجهة كبيرة مع اللوبي المؤيد لإسرائيل الذي يلتقيه في واشنطن هذا الأسبوع (والذي من المرتقب أن يلقي أمامه نتنياهو خطاباً). واللافت أن أوباما حرص في هذا الخطاب على أن يعطي شيئاً ما لكل جانب. فعلى سبيل المثال، قبل ما يدفع به الفلسطينيون من أن المواضيع المرتبطة بالحدود والأراضي ينبغي أن تُبحث أولاً، مع الاعتراف بحدود 1967 باعتبارها نقطة البداية؛ ولكنه أضاف بعد ذلك الحاجة إلى "تبادل متفق عليه للأراضي" مراعاة لمخاوف إسرائيل. كما رفض جهود الفلسطينيين الساعية وراء اعتراف الأمم المتحدة بدولتهم، ولكنه أضاف أن الدولة الفلسطينية المقبلة ينبغي أن تكون لها حدود مع إسرائيل والأردن ومصر وأن تكون "متواصلة جغرافيّاً" -ما يمثل صفعة لجهود نتنياهو الرامية لعزل غزة عن الضفة والحفاظ على السيطرة الإسرائيلية في وادي الأردن. وبالطبع، فقد كان لدى أوباما الكثير ليقوله، ولكن معظمه سبق أن قيل من قبل وما كان ينبغي أن يفاجئ أو يصدم أحداً. ولكن ذلك هو ما وقع بالفعل هنا في أميركا، حيث نددت المنظمات المتشددة المؤيدة لإسرائيل في ما يشبه الهيستيريا بالرئيس لأنه نصب كميناً لنتنياهو، واحتضن أجندة "حماس"، وحكم على إسرائيل بالعيش داخل حدود "أوشفيتز"، كما تقول. ثم انضم الطامحون للترشح للانتخابات الرئاسية باسم الحزب "الجمهوري" إلى جوقة المنددين، فاتهموا أوباما بأنه "عديم المسؤولية"، وبأنه "يرمي بإسرائيل إلى التهلكة" وبـ"خيانة" أو "ازدراء" ما سموه "حليفنا الوحيد". وفي غضون ذلك، لم يُحدث الخطاب أي تأثير في العالم العربي؛ ذلك أن الخطاب الذي استمع إليه العرب كان جد بالٍ وجد حذر، لا يدفع بالنقاش نحو الأمام إلى ما هو أبعد مما وصله خطاب القاهرة في 2009. فقد كان العرب يرغبون في أن يقوم الرئيس بشيء ما؛ وما كانوا يتمنونه بعد عامين على خطاب القاهرة هو رؤية محددات أو علامات صارمة، وجدول زمني للتطبيق، وخطوات ملموسة تتخذها الولايات المتحدة لإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية الذي وصل اليوم عامه الرابع والأربعين. وهنا تكمن المشكلة. ذلك أن ما كانت الإدارة ترى أنه خطوة ضرورية، وإن كانت خطرة، في الداخل انتهى به الأمر إلى إغضاب الإسرائيليين المتشددين، والتحول إلى ما يشبه سلاحا لـ"الجمهوريين" في الداخل، واعتباره من قبل العرب "خطوة صغيرة ومتأخرة". ثم إن هذا ليس سوى بداية ما سيكون بدون شك أسبوعاً مزعجاً لدبلوماسية الولايات المتحدة الشرق الأوسطية. إذ بعد اجتماعهما بالبيت الأبيض يوم الجمعة، أدلى كل من أوباما ونتنياهو بتصريحات للصحافة، حيث اعترف الرئيس بوجود خلافات بين الجانبين، أشار إليها أيضاً نتنياهو بعد ذلك بالتفصيل مصدراً "لاءاته": "لا" لحدود 1967 لأنها "لا تأخذ في عين الاعتبار... التغيرات السكانية التي حدثت خلال الـ44 عاماً الماضية"؛ و"لا" للمصالحة الفلسطينية؛ و"لا" لـ"حق العودة" الفلسطيني. واليوم الأحد، ستتركز كل الأنظار على أوباما أثناء الخطاب الذي سيلقيه أمام اجتماع "آيباك" (اللوبي الإسرائيلي الرئيسي في أميركا) قصد معرفة ما إن كان سيتراجع عن المواقف التي حددها في خطابه بمقر وزارة الخارجية أم سيُدخل عليها تعديلات طفيفة. ولئن كان زعماء "آيباك" قد حذروا أعضاءهم من مغبة إطلاق أصوات أو عبارات استهجان خلال إلقاء الرئيس لكلمته، فإنه لن يكون جمهوراً متجاوباً -اللهم إلا إذا تراجع أوباما عن مواقفه السابقة؛ وفي تلك الحالة، قد يهتف له جمهور "آيباك" تأييداً بينما سيتسبب في إثارة حفيظة جمهور عربي مستاء أصلاً. والأكيد أن ثمة انفصاماً ووضعاً مختلًا أيضاً؛ وكل هذا يذكّرني بوصف القس والناشط الأميركي الأسود جيسي جاكسون لمشكلة سياسية معقدة بأن أي شيء تقوله فيها "يلقى رضا جانب بينما يثير سخط الجانب الآخر".