نحن جيل الخمسينيات أو الجيل الموصوف ظلماً بـ "جيل الهزيمة"، أي الجيل الذي ولد أفراده قــُبيل أو بـُعيد انتصاف القرن العشرين، وتشكلت رؤاهم الفكرية واكتمل نضجهم مع بزوغ السبعينيات أو قبله ببضع سنوات، عشنا في فقر مدقع إلى الدرجة التي لم يكن الواحد منا يملك قوت يومه، أو مخدعه الخاص، أو نقوداً إضافية ليشتري بها جريدة يومية يستقي منها أخبار العالم. فقط الموسرون منا كانوا قادرين على الاستمتاع بذلك الترف، بل وكانوا يمتلكون أجهزة الترانزستور التي غزت بها الدول المتقدمة مجتمعات العالم بأسره، فشكلت هويتها (ظهر المذياع الترانزستور لأول مرة في الولايات المتحدة في 1947، قبل أن يطوره اليابانيون في 1954 وينتجوا منه البلايين للتسويق بأسعار رخيصة في عقدي الستينيات والسبعينيات). والكلام نفسه ينطبق على أجهزة التلفاز التي كانت في تلك الحقبة لا تلتقط سوى قناة واحدة باللونين الأسود والأبيض، ولا يتجاوز دورها دوري الترفيه والتثقيف البريئين، بمعنى أنها لم تكن تبث الدعايات والإعلانات الاستهلاكية المفرطة من تلك المثيرة للحنق، أو البرامج السياسية المثيرة للجدل، بما فيها نشرات الأخبار المحرضة أو الحوارات الأيديولوجية الفاقعة. لقد دار بنا الزمن، وطال بنا العمر حتى ولجنا بوابة القرن الحادي والعشرين لنرى نتائج ما أحدثته العقود الأخيرة من القرن العشرين من متغيرات رهيبة في القيم والسلوكيات والعادات والأفكار، بالتزامن مع انقلاب إيجابي في مستويات المعيشة وأشكالها (على الأقل في منطقة الخليج). وهكذا رأينا أن الجيل الذي كان لا يذهب إلى فراشه إلا وهو متأبطاً لجهاز "ترانزستور" صغير (ماركة سوني أو توشيبا أو هيتاشي)، مؤشره مصوب في الغالب الأعم إلى إذاعة "بي. بي. سي" البريطانية، أو إذاعة "صوت العرب" المصرية، ليستقي من إحداهما أو كلتيهما مجريات الأحداث في العالم، مصحوبة أحياناً بتعليقات تحريضية أو تحليلات مغرضة بحسب الأجندة السياسية للدول الراعية لتلك الإذاعات، حل مكانه جيل مختلف، لا يذهب إلى مخدعه إلا بصحبة جهاز "اللاب توب" - الذي لا يختلف كثيراً ما أحدثه من انقلاب في حياة شباب اليوم وعاداتهم عما أحدثه "الترانزستور" في حياة شباب الخمسينيات والستينيات - فيلتقط من على شاشته مئات الفضائيات، والمواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ويستقي ويبث منها الأخبار والرسائل الطازجة - سواء أكانت مرسلة من أو إلى "واجادوجو" الأفريقية أو "وولومولوو" الأسترالية دون أن يكلفه الأمر سوى "كبسة زر"، بحيث صارت مقولة "إن العالم قد تحول إلى قرية صغيرة حقيقة لا مراء فيها! ومشكلة هذه الثورة التكنولوجية الحديثة في عالم الإعلام والتواصل، التي لم تسهم شعوبنا وبلداننا فيها بمجرد مسمار صغير، أنها مليئة بالغث والسمين. بمعنى أنها تتيح للجميع - أفراداً أو جماعات حقوقية مغرضة أو تنظيمات مرتبطة بدول وحكومات - أن تسطـّر وتبعث وتروج، دون سيطرة أو رادع، ما تشاء من أفكار وأطروحات ومفاهيم وأخبار، تحت أسماء وهمية أو حقيقية. فتتولد من هذه المشكلة مشكلة أكبر هي السيطرة على عقول الشباب والصغار ومن في حكمهم ممن لم يكتمل وعيهم ونضجهم، وبالتالي زرع كم كبير من الأكاذيب والتلفيقات والادعاءات فيها، وصولاً إلى استخدام تلك العقول الطرية في مخططات ومؤامرات ضد أوطانها تحت يافطة المحرومية، أو المظلومية، أو الحريات والحقوق. وهذا ما لم يواجه جيل "الترانزستور"، بسبب اختلاف تقنيات الأخير، وبالتالي محدودية سطوته على العقول والقلوب. وبطبيعة الحال، فإن كل أداة سلاح ذو حدين، غير أنه فيما يتعلق بوسائط الإعلام الجديد، نجد أنه في الوقت الذي يوظف فيه صانعوها ومكتشفوها هذه الوسائط بما يعود عليهم بالفائدة، وتعزيز القيم التي قامت عليها نهضتهم، وتفعيل المدارك والمواهب الكامنة، نجد أن شعوب العالم الثالث المستهلكة، غالباً ما تستخدمه في السفه والتفاهات، أو نشر الرذيلة، أو التحريض على العنف والتخريب، أو إيقاد نيران الفتن الدينية والمذهبية، أو ازدراء الآخر المختلف، أو رمي الناس بالشتائم والاتهامات الجزافية. واستطراداً يمكن القول إن الجيل القديم، على الرغم من فقره وقلة حيلته وبؤسه المعيشي المعروف وتواضع تواصله مع الآخر، ناهيك عما كان يختلج فؤاده من أحلام ثورية رومانسية، لم يجد في كل هذا مبرراً لحمل السلاح والانخراط في الجماعات الإرهابية، أو لشق عصا الطاعة على مجتمعه، أو لتخريب وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة، بينما الجيل الحالي، رغم كل ما هو فيه من رفاهية وراحة، وكل ما يملكه من وسائل معرفية، يثبت يوماً بعد يوم أنه جيل جزوع، لا مكان في قاموسه للصبر والكفاح المعيشي، بل ويستخدم كل ما تحت يديه من وسائل الترف والثورة التكنولوجية لإلحاق الأذى بنفسه ومستقبله، وحرق وطنه ومجمل مكتسباته، كي لا نقول تسليم عقله لمن يريدون تضليله وتلويث ضميره. إنها بإيجاز شديد حالة جيلين: الأول تربى على القيم الوطنية الأصيلة، ودرس في معاهد تربوية صارمة، وتلقى العلم على أيدي مربين أكفاء مخلصين لمهنتهم، وتشرب مناهج تربوية معتدلة في مضامينها ونظرتها إلى الآخر المختلف، وترعرع في وسط أسر غيورة على بلادها، ولاؤها الأول للأرض والوطن قبل العقيدة أو المذهب أو الإيديولوجيا. والثاني جيل تـُرك له العنان ليستقي قيمه من المنابر المضللة، أو من الأحزاب المؤدلجة أو من المؤسسات المرتبطة بالأجنبي الحاقد، وتلقى تعليمه على أيدي مربين "غير أفاضل"، في مدارس يسودها التفسخ والتسيب، وتدار وفق مناهج تعليمية خالية من التسامح ولا تشجع على حرية الإبداع والخلق، بل وتخلو أيضاً من قاعدة "مكافأة المثابر ومعاقبة المتمرد العاق دون تهاون". هذا ناهيك أن أفراد هذا الجيل ولدوا وعاشوا في ظل مجتمع الطفرة، حيث أغلب العائلات لم تكن لتكترث بمستقبل أبنائها أو توجيههم الوجهة السليمة، قدر اهتمامها بكم تكسب، وكم تراكم من المال، وأين تقضي العطلة الصيفية مثلاً؟ فمن هو يا ترى الجيل الذي يجب أن يوصم بـ "جيل الهزيمة" بعد ذلك؟ ومن كان أكثر مناقبية ووطنية وصلاحاً؟ جيل الترانزستور المعدم، أم جيل الإنترنت المرفه؟ سؤال نترك إجابته لكم.