اشتكى أحد مديري البحوث الاقتصادية في الكويت قبل عام، افتقار البلاد إلى "مركز أبحاث اقتصادية محايدة". إن الكويت، قال "د. صادق أبُل" من بنك الكويت الدولي، "بحاجة ماسة إلى مراكز أبحاث اقتصادية". وأضاف أن الأبحاث الأكاديمية متوفرة، "ولكن متخذي القرار يحتاجون إلى دراسات علمية تُبنى عليها سياسات وإجراءات، وهذه الأبحاث غير موجودة، حيث تتم الاستعانة عادة بشركات أجنبية". شكوى خبراء الاقتصاد في العالم العربي، في مجال البحث والتطوير وتنويع المنتجات والمصنوعات، وغياب المراكز المؤهلة لهذه المهمة في هذه البلدان، شكوى، كما هو معروف، قديمة. ففي ورقة أعدها الخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة، الباحث "حسن الشريف" بعنوان "الأقطار العربية وثورة الإلكترونيات الدقيقة"، نشر قبل أكثر من عشرين عاماً، يقول: "من الملاحظ أن خطط التنمية في البلدان العربية قلما أعطت أي اهتمام لتطوير قدرات عربية في البحث والتطوير والتصميم الصناعي". ويعدد الباحث عوامل استمرار هذا النقص و"طغيانه إلى اليوم"، يقصد عام 1978، فيقول إن منها "ضعف المجموعات العلمية والمهنية العربية، وانصرافها عن البحث والتطوير الصناعي، وانقطاع صلتها بقطاعات التصنيع والاستثمار من جهة، وبقطاعات المستفيدين من جهة أخرى، ولهذا فهي عادة ضعيفة التأثير في صانعي قرارات التصنيع والتنمية". ويشير الباحث إلى الأبحاث التطبيقية بالذات التي يشتكي د. أبُل من غيابها، ويلاحظ "انصراف معظم الباحثين في الجامعات ومراكز البحث العلمي عن الأبحاث التطبيقية التي تلبي احتياجات مباشرة للمجتمعات المحلية، وتوجههم في معظم الأحيان إلى متطلبات الأبحاث النظرية "المقبولة" في وسائط النشر العلمي العالمية". ومن عوامل استمرار هذا النقص، يضيف الباحث، "ضعف البنى التحتية الصناعية، وافتقاد التقاليد الصناعية، وعدم وضوح أهداف تنمية وتطوير قدرات صناعية متقدمة في معظم مشاريع التصنيع العربية، وضعف ثقة المجتمعات العربية بالناتج المصنع محلياً، وفقدان الثقة بالخبرة العربية وقدرتها على التصميم والإبداع في الصناعة. ومن الملفت للنظر أن معظم الجامعات العربية تعتمد برامج تعليمية مشابهة لمثيلاتها في جامعات الدول المصنعة، وقلما تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المجتمعات المحلية وظروفها. وهي تهيئ طلبتها في العادة لمتابعة التحصيل العالمي في الدول المصنعة أكثر مما تهيئهم لمواجهة مشاكل الصناعات المحلية". ومن الأمثلة والمفارقات التي يشير إليها في هذا المجال الصناعي المتقدم الذي كتب فيه بحثه، الصناعات الإلكترونية، "أن الجامعات العربية تخرج كل عام آلاف المهندسين في الاختصاصات الإلكترونية، لكن صناعة الإلكترونيات العربية لا تستوعب منهم سوى عشرات". وأصدر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي، مجموعة أبحاث قيمة قبل عامين، أي 2008، بعنوان "النظام الأمني في منطقة الخليج العربي". وقد أعجبني أن قسماً كاملاً من الكتاب قد خصص لـ"الأمن الاقتصادي الخليجي". ومن بحوث هذا القسم "المخاطر في بيئة الخليج من منظور القطاع الخاص"، و"أهمية التنوع الاقتصادي لتنويع مصادر الدخل في دول مجلس التعاون"، و"اتفاقيات التجارة الحرة والأمن الاقتصادي لدول مجلس التعاون". وأخيراً، بحث مطول بعنوان "الاهتمام الاقتصادي الآسيوي المتنامي بمنطقة الخليج العربي". ويتناول في الورقة الأخيرة باحث هندي، مدى اعتماد دول آسيا على نفط دول مجلس التعاون، ويقول إن هذه الدول الخليجية تُصدّر ثلثي إنتاجها النفطي إلى آسيا، ويمكن أن تصل هذه الكمية إلى أكثر من الضعف في عام 2020، ولأول مرة منذ السبعينيات، صارت منظمة "أوبك" تنتج النفط بكامل طاقتها. في المقابل، يأتي أكثر من ثلث واردات الدول الخليجية من آسيا، وتبلغ أرقام التجارة السنوية النفطية وغير النفطية معاً بين دول مجلس التعاون وآسيا نحو 200 مليار دولار. ومن المؤكد، يضيف الخبير الهندي، "أن يرتفع هذا الرقم مع استمرار المفاوضات لعقد اتفاقيات للتجارة الحرة مع الصين والهند واليابان وباكستان". وثمة عامل بشري في هذا الاقتصاد الخليجي - الآسيوي. "إذ يشكل الأجانب نحو 70 في المئة من القوة العاملة في دول مجلس التعاون، ويرسل هؤلاء تحويلات إلى أوطانهم تصل إلى 30 مليار دولا سنوياً. ويبلغ عدد العاملين الأجانب في منطقة الخليج 12.5 مليون شخص، ويتألف 70 في المئة منهم من الآسيويين". اقتصاديات بلدان مجلس التعاون والعالم العربي كما هو واضح، ذات مكانة طاغية في منطقة الشرق الأوسط. ولا تقف مراكز الأبحاث العالمية عند التقصير أو العجز العربي والخليجي في هذا المجال، بل تحاول دراسة الكثير من القضايا الاقتصادية الشرق - أوسطية، في ضوء الاحتمالات المستقبلية، وبخاصة أن هذه المنطقة قد غدت بالغة الأهمية للشرق والغرب معاً. عرضت صحيفة "القبس" الكويتية 2010/10/24، دراسة قيمة، شاملة ومركزة، أعدتها مجلة "ميد"، عن الاتجاهات الرئيسية التي ستشكل اقتصاد الشرق الأوسط خلال الأعوام العشرة القادمة، في ظل هذه الثروات الهائلة التي غذتها أسعار النفط المرتفعة، وأشارت دراسة "ميد" إلى 30 قضية، تعتقد أنها ستعيد تشكيل المنطقة في 2020. أولى هذه القضايا والمحاور، "معالجة القنبلة الديموغرافية الموقوتة"، أي تكاثر السكان ومشكلة البطالة. وترى "ميد" أن القوة الحكومية لخلق الوظائف من أجل التركيبة السكانية الشابة والسريعة النمو، "ستقود السياسة الاقتصادية والاجتماعية". هل سيكون هذا سهلاً سلساً كما قد يفهم من تنبؤ "ميد" لا أحد يدري! القضية الثانية هي "عودة العراق من جديد"، فهذه الدولة "ستتجاوز الاضطراب السياسي لتعود مرة أخرى كقوة اقتصادية إقليمية"، ربما تحولت العراق كذلك إلى مركز ثقافي بالغ الأهمية! وتتنبأ الدراسة بـ"انخفاض القوة العاملة الوافدة"، بسبب الدافع المتزايد لاستقرار القوة العاملة وتوطينها، مما سيحفز توظيف الكثير من المواطنين، "الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض كبير في عدد العمالة الوافدة بالمنطقة". والتحدي الأكبر في اعتقادي هو قدرة العمالة المحلية الوطنية الحلول في الوظائف التي تعمل بها حالياً العمالة الوافدة، وبخاصة المهن المرهقة بدنياً والمنخفضة المردود مالياً وغير المرغوبة من شباب وشابات المنطقة الخليجية والعربية كذلك! تضمن تقرير "ميد" العديد من التوقعات في مجال الطاقة، مثل "تطور عمليات إنتاج الهيدروكربونات" كما ستستمر المنطقة بشكل كبير في تطوير برامج الطاقة النووية، لتلبية الطلب المتصاعد على الكهرباء، وستكون الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية للمياه والكهرباء قوة دافعة لسوق المشاريع الكبرى. وسيزداد الإلحاح في البحث عن مصادر جديدة للنفط والغاز بسبب وصول حقول النفط الحالية إلى الشيخوخة. كما سيستمر اعتماد ازدهار المنطقة على أسعار البترول، رغم أن المنطقة ستصبح مركز الطاقة الشمسية، إلى جانب مزارع طاقة الرياح. وتقول "ميد" إن الافتقار إلى توافر الغاز سيشكل قلقاً أكبر مما يشكله اليوم، كما أن نقص الغاز قد يؤجل التطور الصناعي بسبب انخفاض الاستثمار في المشاريع الصناعية الجديدة. على الصعيد المالي، تنبأت "ميد" بـ"إصلاح الأسواق المالية"، وقالت إن الأسواق المالية الناشئة في المنطقة ستتجه نتيجة هذا نحو مزيد من حوكمة الشركات والشفافية الأفضل خلال العقد المقبل. وتتنبأ "ميد" بـ"صعود الخدمات المصرفية الإسلامية"، وسيكون "قطاع الخدمات المصرفية الموافقة للشريعة.. المصدر الأساسي للتمويل في المنطقة". وتتوقع "ميد" تقدماً واسعاً في قطاع النقل. "وفي هذا المجال ستشهد قطاعات الشحن والسكك الحديدية استثمارات كبيرة ستعيد تشكيل اقتصاد المنطقة". وستشهد المنطقة تحولاً من الغرب إلى الشرق، وتراخياً في الروابط الوثيقة الحالية للمنطقة مع الأسواق الغربية المستهلكة للطاقة. وتنبأت "ميد" بزيادة مشاريع الشراكة بين القطاعين الخاص والحكومي وانخفاض دور تمويل الدولة. كما تنبأت بتحسن في التكنولوجيا وتأثير ذلك على التجارة. ولكن هذا التحسن قد لا يشمل الأمن الغذائي، إذ أن "الافتقار إلى مصادر المياه في المنطقة يجعل الزراعة على المستوى المحلي أمراً صعباً، وبالتالي ستشهد الأعوام العشرة القادمة إنفاقاً على واردات الغذاء، التي قد تصل قيمتها إلى 49 مليار دولار، وستؤدي إلى تعزيز الروابط بين المنطقة ودول أفريقيا". تقرير "ميد" يضع بين أيدينا الكثير من التوقعات الذكية والمرجحة، إلا أن التقرير يذكرنا من جديد بأهمية "مراكز الأبحاث الاقتصادية المحايدة"!