أولاً، هناك قتال يدور ضد "القاعدة" والمجموعات الإرهابية المرتبطة بها. ثانياً، هناك الحرب من أجل حماية ودعم الحكومة الأفغانية الوليدة ضد التمرد الطالباني. ثالثاً، هناك الحرب الثالثة وهي الأقل وضوحاً، لكن الأكثر بقاءً وتتمثل في المعركة الاجتماعية والثقافية بين ممثلي الحداثة في كابول وبين مناهضيها القاطنين بالمناطق الجبلية التي يصعب الوصول إليها. في منطقة "كونار" بشرق أفغانستان، وعلى وجه الخصوص "وادي بيتش"، تتداخل تلك الحروب الثلاث، كاشفة عن إمكانيات، وحدود الاستراتيجية الأميركية. وبينما تقوم الولايات المتحدة بإعادة تقييم نهجها في أفغانستان، بناءً على المعطيات المترتبة على مقتل بن لادن، وعلى ضوء تكليف بترايوس بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والموعد النهائي الصيفي الذي حدده أوباما للبدء بسحب القوات... فإن وادي "بيتش" يقدم إطلالة فريدة على الحرب الثالثة، وعلى الكيفية التي يمكن لنا بها تجنب الوقوع في نسخ متكررة منها. كانت المرة الأولى التي عملت فيها الولايات المتحدة في ذلك الوادي في عام 2006، وذلك عندما قامت بزيادة عدد قواتها لتحويل مسار الحرب المتعثرة، ومنع "القاعدة" والجماعات التابعة لها من العمل هناك. لكن هذا الجهد الذي استمر لمدة خمس سنوات سوف ينتهي عندما تغلق القوات الأميركية قواعدها، وتنسحب من الوادي. ويشار في هذا السياق أن الميجور جنرال "جون كامبل"، قائد القوات الأميركية في شرق أفغانستان، كان قد وصف الوادي ذات مرة بأنه "مختلف عن غيره" (أقل وصف يمكن إطلاقه على هذا الوادي) والسبب أنه محاط بسلسلة من الجبال الشاهقة الوعرة التي تتخذها قبائل البشتون الأكثر عزلة، وبعض من القبائل والأجناس الأخرى التي تعيش في أفغانستان، ملاذاً يعزلها عما حولها ويجنبها الإندماج مع بقية مكونات الشعب الأفغاني، والخضوع لسيطرة الدولة. فمن المعروف أن تلك القبائل والأجناس تعتبر أن الاندماج في الدولة يعني العبودية، والفساد، والضرائب، والتجنيد، وانعدام الأخلاق، وعدم القدرة على الاستمرار في ممارسة نمطها المعيشي. وهذا تحديد هو السبب في أن سكان ذلك الوادي والمناطق الجبلية المحيطة به قد قاوموا محاولات التحديث التي قامت بها القوات الأميركية هناك، والتي عملت من خلالها على إخضاع المنطقة لإشراف الحكومة المركزية في كابول... وهي محاولات كانت لها آثار عكسية، حيث دفعت وجهاء القبائل إلى رفض وجود الأميركيين، ووجود الموظفين التابعين للحكومة على حد سواء، كما دفعتهم -من ناحية أخرى- لتعزيز روابط قبائلهم بالجماعات المتمردة والإرهابية، والقيام بهجمات على القواعد الأميركية. ورغم أن تلك الهجمات لم تؤد لإخراج الأميركيين من المنطقة، فإن عدم تحقيق تقدم ملموس، والعداء السائد، يوضح أن "كامبل" كان على صواب عندما قرر الانسحاب من الوادي. والمناطق النائية التي يكون وجود القوات الأفغانية فيها ضعيفاً، هي المناطق التي يميل الإرهابيون المنتمون لدول عدة إلى التجمع فيها عادة. وهذه النقطة على وجه التحديد هي ما يجعل من تقوية وتعزيز أوضاع الدول الفاشلة، مبدأً أساسياً من مبادئ استراتيجية الأمن القومي الأميركي. هل فشل استراتيجية مقاومة التمرد في وادي "بيتش" يعني التخلي عن هذا المبدأ؟ وهل يجب على الولايات المتحدة القبول بوجود معاقل حصينة للمنظمات الإرهابية في المناطق النائية الوعرة من أفغانستان؟ لا.. بالطبع، فلو عدنا للوراء فسنكتشف أن محاولة مد نطاق سلطة الدولة إلى وادي "بيتش" منذ البداية، كانت ضرباً من الحماقة، لأن من قاموا بذلك كانوا يجب أن يعرفوا أن حكومة كابول الوليدة التي تعاني من الفساد وضعف الكفاءة لن تتمكن من إدارة شؤون الوادي لفترة طويلة. فالشيء الذي يفترض على حكومة ضعيفة مثل حكومة كابول فعله، هو العمل على تطوير اقتصادات المناطق الحضرية، والعمل في ذات الوقت على تحسين أحوال المدارس في المناطق الواقعة بجوار المدن، وعلى الطرق الرئيسية الواصلة بينها. وكما قلت ذات مرة، فعلينا التركيز على تحسين ظروف هؤلاء الذين يريدون الالتحاق بركب الحضارة، وترك هؤلاء الذين يتمردون على الحضارة ولا يودون اللحاق بها لشأنهم. والحق أن استراتيجية "كامبل" وكبير الممثلين المدنيين للقيادة الإقليمية "توم جيبونز"، تمثل النموذج الصحيح في هذا الشأن. ففي شهر يوليو الماضي نشر كامبل وجيبونز كتيباً يتضمن المفهوم الخاص بـ"برنامج تعزيز المنطقة". وفقاً لهذا البرنامج تم التركيز على المراكز المهمة على امتداد الطرق بين المدن الرئيسية في شرق أفغانستان. وكان الغرض من البرنامج الربط بين كابول والمدن القريبة منها: "جلال آباد" و"أسد آباد" و"غازنياند" و"جارديز"، مع العمل في نفس الوقت على إنشاء نقاط آمنة في كل مركز من المراكز الكبرى، حيث يمكن تدريب الشرطة والموظفين المحليين، وحيث يمكن للقادة أن ممارسة نفوذهم. وحيث يمكن أن يؤدي توافر الطاقة الشمسية ووسائل الاتصال الحديثة إلى المساعدة على إنشاء بنية أساسية. ورغم أن الحصول على الموارد اللازمة لتحقيق ذلك يمثل مشكلة، فإن هذا البرنامج يحقق نتائج إيجابية في العديد من المناطق. وفي الآن ذاته لن يتم تجاهل "وادي بيتش" حيث سيواصل الجيش الأميركي ملاحقة الإرهابيين والإيقاع بهم سواء في الوادي أو بقية الأودية الأخرى. وما لن يفعله الجيش هو محاولة البقاء في تلك المناطق النائية، والسعي لتغيير طريقة حياة شعوبها، أو محاولة مد نطاق نفوذ حكومة كابول إلى أماكن لا ترحب بهذا النفوذ أصلاً. إن الفشل في "وادي بيتش" لا يعني أن سياسة مقاومة التمرد فاشلة، بل يبين أنها سوف تفشل حتماً، أو ستصبح صعبة بدرجة غير عادية، عندما يتم تجريبها على أناس معزولين اختاروا عن وعي أن ينأوا بأنفسهم وحياتهم عن نظام الدولة. صحيح أن مثل هذه الأماكن غير الخاضعة لنفوذ الدولة يمكن أن تتيح الفرصة للإرهابيين كي يجدوا فيها ملاذاً... لكن من الصعب للغاية مهاجمة مانهاتن انطلاقاً من وادي بيتش. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"