على مشارف خطاب أوباما يوم الخميس الماضي بشأن الربيع العربي، وما سيُعلنُ عنه من معالجاتٍ بشأن النزاع العربي الإسرائيلي، أعلنت الولايات المتحدة عن عقوباتٍ منفردةٍ تناولت الرئيس السوريَّ وعدداً من معاونيه. واقترن ذلك بتصريحٍ لوزارة الخارجية الأميركية بأن على الرئيس الأسد قيادة التغيير أو الرحيل! وبينما اعتبر مراقبون هذه العقوبات مفاجئةً لأنها تجاوزتْ العقوبات الأوروبية التي أُعلنت قبل أُسبوعين، ذهب المتحدثون الأميركيون إلى أنها تتمُّ في سياقٍ مضى على السير فيه شهرٌ وأكثر، لكنّ الأسد ما تجاوبَ مع التحذيرات والإنذارات؛ إنْ لجهة التوقف عن قمع المتظاهرين، وإنْ لجهة السير في الإصلاحات التي وَعَدَ بها. وما يقوله الأميركيون بشأن المطالب التي عرضوها، قاله قبلهم الأوروبيون والأتراك والعربُ الخليجيون. وقد تحركت اللجنة الدوليةُ لحقوق الإنسان، وتحرك الأوروبيون وأصدروا عقوباتٍ ما تناولت الرئيس الأسد، واجتمع مجلس الأمن وفشل في إصدار قرارٍ لاعتراض الروس والصينيين. وقد اعتبر المعارضون السوريون في الخارج، وكذلك لجنة العفو الدولية والصليب الأحمر، أنّ هناك تباطؤاً في الضغط على النظام السوري لإيقاف القمع، ودخول لجان التحقيق، وقوافل المُساعدات. وهكذا فالحديثَ عن مسارٍ في ردود الفعل الدولية صحيح، لكن الصحيح أيضاً أنّ الجميع كانوا مترددين في اتخاذ إجراءات صارمةٍ، وبخاصةٍ أنّ التظاهرات في سوريا تدخل شهرها الثالث، وهناك حوالي ألف قتيل وعشرة آلاف معتقل، فضلاً عن عشرات الأُلوف من المشرَّدين بالداخل السوري، وعلى الحدود مع تركيا ولبنان. فما الذي حصل الآن ويحصل؟ وما هي اعتباراتُ سائر الأطراف في النظر إلى الوضع في سوريا؟ لنبدأ بالنظام السوري نفسه. فقد تأخَّر في الاعتراف بالمشكلات بالداخل حتى انكشفت مسألةُ درعا، وامتدّ الاضطراب إلى بانياس ودوما واللاذقية وحمص وسائر أنحاء البلاد، ربما باستثناء حلب ودمشق. هذه التظاهرات كُلُّها ووجهت بعنفٍ مفرط، وما تحدث عنها الإعلام الرسمي، ولا نملكُ بشأنها من جانب النظام غير خطاب الرئيس في مجلس الشعب، والذي وعد فيه بالإصلاح إنما بعد إنهاء الاضطراب، كما شكّل حكومةً جديدةً يقالُ إنها تدرس مشروعات قوانين إصلاحية بعد إلغاء قانون الطوارئ. وقد تشكلت قبل أيام لجنةٌ عليا للحوار. إنما كُلُّ ذلك على وقْع أحداث الاضطراب والتظاهر، واتهامات النظام للمتسللين والإرهابيين والسَلَفيين وحتى تيار "المستقبل" بلبنان! ومنذ الأُسبوع الثالث للتظاهُر، ما عادت تصريحات الإعلام السوري، وأحاديث الرسميين في دمشق تُقْنعُ أحداً. لذلك توالت مطالبات الأتراك والأوروبيين والأميركيين للأسد بالمسارعة في الإصلاح، والتوقف عن قمع المتظاهرين. وبعد شهرٍ على التظاهُر ما بقي مع النظام السوري كثيرون، وصمت الخليجيون بعد تأييدٍ مبدئيٍّ للاستقرار والإصلاح. ثم جاءت العقوبات الأوروبية قبل أُسبوعين، وتلتْها العقوبات الأميركية التي طالت الأسد للمرة الأولى. لقد كان النظام السوريُّ يدركُ نقاط قوته بالخارج الإقليمي والدولي. فمنذ البداية، ورغم ما حصل في تونس ومصر، ما كان أحدٌ يعمل على إسقاط النظام أو يرغب بذلك. أمّا العربُ فمهتمون ومعنيون بالاستقرار بالداخل السوري الذي كان عماداً للاستقرار في بلاد الشام المضطربة؛ بخاصةٍ بعد ما حصل بالعراق وللعراق، ثم ما يحصل في ليبيا واليمن. وقد بلغ الجزعُ بأردوغان أَنْ حذَّر من انقساماتٍ طائفيةٍ بالداخل، كما حذَّر من حدوث ما يشبه مذابح حماة وحلبجة. ولدى الأوروبيين والأميركيين ثلاثةُ اعتبارات: أهمية الاستقرار السوري لاستقرار المنطقة، وضمن ذلك العراق ولبنان. وأهمية تماسُك النظام الذي هدأت جبهتُهُ مع إسرائيل رغم احتلال أرضه منذ عام 1973. وأهميةُ بقائه قوياً وحاضراً لهذا العام، عندما يجري التفاوُضُ على حلِّ الدولتين في فلسطين، فالحلُّ الشاملُ غير ممكنٍ ما دام الجولان محتلاً، ولابد من التفاوض على ذلك مسبقاً أو بالتوازي مع التفاوُض الفلسطيني الإسرائيلي. وهذه الاعتبارات أطمعت أهل النظام في سوريا، وهو ما صرَّح به رامي مخلوف ابن خالة الرئيس لصحيفة "نيويورك تايمز"، إذ قال "إنهم" سيقاتلون إلى النهاية، وحذَّر إسرائيل من أنّ استقرارها مرتبطٌ بالاستقرار في سوريا! وأخطأ أهل النظام عندما حرَّكوا الجبهة بالفعل، وهي التي لم تتحرك منذ آماد؛ فقد أرسلوا في ذكرى النكبة مئات المتظاهرين لاختراق الشريط الشائك في الجولان، بينما كانت مئاتٌ أُخرى من المتظاهرين الفلسطينيين، تتحدى الإسرائيليين على الحدود اللبنانية. وأسفرت الاشتباكات عن 14 قتيلاً من الهاجمين. وبعد هذه الحادثة الدموية بدأت كلُّ الاعتبارات السابقة بالتساقُط: فالسوريون يحاولون الابتزاز بإمكان إشعال الجبهة التي يصل إليها الشباب بباصاتٍ منظَّمة، في حين لا يستطيع متظاهرٌ أن يخرج إلى الشارع بحمص ودرعا وغيرهما ويبقى آمِناً. وهكذا وبعد أعوامٍ من مساعي الحل التفاوُضي يثبُتُ الآن أنّ السوريين لا يريدون الحلَّ أو لا يقدرون عليه. ولذا فإنّ الدوس على القدم بقسوةٍ من أجل تغيير السياسات ما أثبت جدْواه، ولابد من البحث عن شريكٍ سوري جديد في التفاوُض على الجولان، والمشاركة في السلام الشامل. والنظام السوري عاجزٌ عن تحقيق الاستقرار حتّى بالقمع، لأنه لا يريد الإصلاح أو أنّ ذلك ليس من طبيعته. ويبقى الأمر الأخير في صالح النظام، وهو أنّ البديل غير متوافرٍ حتى الآن، إذ ما برز أحدٌ في الداخل، ومعارضة الخارج ما استطاعت حتى الآن جمع صفوفها. فالاتجاه الأميركي المفاجئ أو غير المفاجئ، إلى الرأس مباشرةً، المقصودُ به أنّ النظام ما عاد صالحاً للسلام أو للإصلاح أو للاستقرار، ولابُدَّ من انضاج البديل بالتعاون مع المعارضة الداخلية والخارجية للنظام! هل يكفي هذا كلُّه لتعليل ما يحدث؟ كلام رامي مخلوف وآخرين عديدين يدعم مقولة "الفوبيا" بالتعصب الإسلامي والذي سينتهج المذابح الطائفية تجاه الأقليات!. وهي الفكرة نفسها التي كررها أردوغان وإن بطريقةٍ معكوسة: إنّ الأقلية هي التي سترتكب المذابح! والمؤكد أنّ شيئاً من ذلك لن يحصل، فالمتظاهرون والمتحدثون باسمهم لا يظهر عليهم التعصب الطائفي. وبعد نهاية الحرب الباردة، وطغيان وسائل الاتصال، ما عادت المذابح الكبيرة ممكنةً حتّى لو أرادها هذا المتسلِّط أو ذاك. ولذا فالراجح أن صخرية النظام تعود لأمر أساسي، هو الاقتناع بأنّ عمليات التحول الديمقراطي سوف تُزيلُ العهدَ كلَّه. وما من أحدٍ في الجيل الثاني للعهد والنظام والأُسرة مستعدٌّ للتسليم بذلك، وهذا ما ثبت في حالات مبارك وبن علي والقذافي وصالح. بعد درعا والصنمين وبانياس ودوما واللاذقية وحمص وحماة والرستن وتلكلخ ونوى وداريا.. إلخ، سقط حاجز الخوف، ودخلت سوريا في زمن الاحتجاجات العربية. إنما التكلفةُ ضخمةُ بضخامة الرهان، رهان انتهاء الاستثناء العربي، وتغيير مصائر المنطقة العربية، بنزول الجمهور العربي إلى شوارع دساكره التي اضطر لمغادرتها قبل أربعين عاماً!