أثارت عودة لاجئ فلسطيني منزوع من أرض آبائه وأجداده في فلسطين إلى يافا الكثير من مشاعر الاحترام والتقدير لقدرة الإنسان الفلسطيني الأعزل من السلاح أن يصوّت بقدميه لصالح مستقبله ومستقبل أبنائه. وحسن عبدالمحسن حجازي كما انتشرت الأخبار عنه، هو شاب فلسطيني يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، نجح في التغلّب على ظروف العيش داخل أحد المخيمات الفلسطينية في سوريا، وتخرّج من كلية الهندسة، قبل أن يكوّن عائلة صغيرة. غير أنّ حسن حجازي ظلّ يحلم طيلة حياته مثلما حلم أبوه وجدّه من قبل، طيلة ثلاثة وستين عاماً، منذ نفيهما من مدينتهما يافا إلى الشتات، وإلى المخيمات العتيقة على حواف المدن العربية. وقد ظلّ حلم حسن هو أن يرى بيتهم القديم الذي طالما تحدّث عنه جده، وحمل مفتاحه في جيبه. وأن يحاكم من احتلّ ذلك البيت بغير حق، بدلاً من محاكمته هو. ولقد اهتزّت أركان المؤسسة الإسرائيلية بما فيها محطة التلفزيون العاشرة، والمحكمة الإسرائيلية في يافا، لظهور رجل من صفحات التاريخ، يسمونه اللاجئ الفلسطيني، وكانوا يتصورون أنه محكوم عليه بالبقاء إلى الأبد في الملاجئ. ظهر هذا الرجل فجأة يجوب شوارع تل أبيب، وشوارع يافا، ويشم رائحة برتقالها الذي طالما تحدّث عنه الجد الأكبر لأحفاده، وطالما غمرت رائحته الزكيّة أرجاء فلسطين وطبقت شهرته الآفاق. عاد حسن الرمز إلى الوطن الأصلي ليعلن للمحتلين الصهاينة أنّ هذا هو وطنه، وهذه هي مدينته، وأنّه يستطيع تحقيق ما عجزت عنه الحكومات العربية التي لم تستطع أن تعيد هؤلاء اللاجئين إلى أوطانهم سواءً بالحرب أو بالسلم، وحاولت القفز فوق إرادتهم ومشيئتهم، وبيّنت أنّ عودة المحرومين إلى أرضهم أمرٌ لا يمكن إقناع المفاوض الإسرائيلي بالقبول به، أو بتحقيقه. وجاءت مسيرة هذا الرجل ليثبت للعالم أجمع، أنّ اللاجئ المُسالم الخالي من أي نوع من أنواع السلاح، يمكن أن يصبح يوماً ما "عائداً". وطالما تغنّى الفلسطينيون بيوم العودة، وسمّوا بناتهم بـ"عايدة"، ولكن هذا الشاب الفلسطيني، استطاع أن يترجم، وإن كان لساعات محدودة، الحلم القديم بالعودة، إلى حقيقةٍ راسخة على الأرض. حلم اليهود من قبله طيلة قرون، وصلّوا من أجل عودةٍ إلى القدس، وفي غفلةٍ من الزمن، وغفلةٍ من أصحاب الأرض، استطاعوا أن يحققوا مبتغاهم على أرض فلسطين التاريخية، ومدينة العرب والمسلمين، القدس المحتلة. واليوم، وفي خِضمّ التحوّل الهائل الذي يشهده العالم العربي، يستطيع هذا اللاجئ البسيط أن يحقق حلم الملايين التاريخي بالعودة إلى أرض آبائه وأجداده. وإذا كان الربيع العربي قد قاد إلى سقوط العديد من الأساطير السياسية حول الدولة المشرقية وسلطتها وقوتها التي لا تُقاوم، فإن رمزية الحدث التي جعلت الجماهير العربية يوم الأحد الماضي تتوجه نحو الحدود وتطرق باباً آخر من الأبواب المُحرّمة، نجحت أخيراً في إسقاط جدار آخر من جدران الوهم العربية، بأنّ حدودنا مع إسرائيل هي حدود ملغّمة، ولا يمكن عبورها. وبسقوط هذا الوهم، وتصدّي الإنسان الفلسطيني البسيط لرصاص العدو في يوم واحد في جنوب لبنان، وفي مجدل شمس، وفي الضفة الغربية، لم يفت القيادة الإسرائيلية، أن تحس أخيراً بأن الصحوة الشعبية العربية قد طرقت أبوابها، وأنّ رياح التغيير لابد قادمة. وقد حاولت الصحف الإسرائيلية تخفيف وقع الخبر على الإسرائيليين بأنّ حسن حجازي قادم لطلب العمل في تلّ أبيب. وأدلى المتحدث الرسمي للخارجية الإسرائيلية لإحدى المحطات العربية، بأنّ إسرائيل لن تسمح للحكومة السورية بتصدير مشاكلها عبر فتح حدودها مع إسرائيل للمتظاهرين والمتسللين العرب. غير أنّ الحقيقة ظهرت في اليومين التاليين، حين ظهر نتنياهو في "الكنيست" الإسرائيلي ليعرض باباً جديداً للمفاوضات مع الفلسطينيين بعد أن سدّ جميع الأبواب المفتوحة، ما حدا بالوسيط الأميركي ميتشل لإعلان استقالته من منصبه كوسيط للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لشعوره بأنّ حكومة نتنياهو قد أغلقت جميع أبواب المفاوضات بسبب ابتلاعها المتواصل لأملاك الفلسطينيين وأراضيهم، عبر سياسة بناء المستوطنات التي لا تكل ولا تمل من تنفيذها على رغم كل الانتقادات والضغوط الدولية. إن إسرائيل تريد مجالاً مفتوحاً لمفاوضات لا نهاية لها، ولذا تعمل فقط على تخدير الفلسطينيين وعدم تقديم تنازلات حقيقية لهم. أما الإنسان الفلسطيني البسيط فقد ملّ العيش في أكواخ المخيمات، ويريد العودة إلى "بيّاراته" ومزارع البرتقال في يافا وحيفا، كما يريد أن يعيش بأمان فوق أرض آبائه وأجداده. هذا المطلب الإنساني لن يستطيع نتنياهو ولا الحكومة الإسرائيلية أن يتجاهلاه، فنتنياهو يريد إبقاء الفلسطينيين يعيشون على حافة الصحراء، وإن قبِل بعودتهم، فيريد منهم العودة إلى ما تبقّى من مدن فلسطينية معزولة ومخنوقة في الضفة الغربية، أو في غزة. ولكن نتنياهو لن يستطيع فعل ذلك إلى الأبد، فقوته العسكرية وإن نجحت خلال الستين عاماً الماضية في تهجير الفلسطينيين إلى حافة التاريخ، فإن الستين عاماً القادمة ستشهد عودتهم إلى مدنهم وقراهم. الفلسطينيون عائدون، هذا الحلم الذي طالما تغنينا به، قد أصبح اليوم، وبسبب حسن حجازي ورفاقه من المدنيين الفلسطينيين، حقيقة واقعة في مجدل شمس، وفي يافا، وفي غيرهما من مدن فلسطين المُحتلّة.