"نادراً ما ينحني الملوك". بهذه العبارة، علق نيكولاس ويتشيل مراسل الـ"بي بي سي" على انحناءة الملكة إليزابيث الثانية أمام نصب الجندي المجهول بالعاصمة الإيرلندية دبلن الأسبوع الماضي، حيث وقفت الملكة أمام نصب من قتلوا من الإيرلنديين في الحروب الطويلة ضد بريطانيا. يجمع المراقبون على أن الزيارة التي قامت بها ملكة بريطانيا لإيرلندا، كانت زيارة تاريخية بكل المقاييس، فهي الأولى من نوعها منذ تحرير إيرلندا قبل تسعين عاماً. ولنعرف أهمية الزيارة، علينا تذكر أن الاحتلال البريطاني لإيرلندا، يعيش في خلجات الإنسان الإيرلندي ويشكل جزءاً أساسيّاً من وعيه القومي والوطني، ويرسم خطوطاً تاريخية في عقله الباطن حين يذكر اسم بريطانيا. الاحتلال الإنجليزي لإيرلندا بدأ بالقرن الحادي عشر، واكتمل منذ القرن السابع عشر حتى عام 1922. تمثل بريطانيا في التاريخ الإيرلندي كل شيء قبيح: دموية، احتلال، استعلاء، مسح للهوية واللغة الإيرلندية والمجاعة والهجرة الجماعية للإيرلنديين بداية القرن الماضي هرباً من الجوع الذي فتك بمليون إيرلندي، ماتوا من الجوع، وآلاف منهم غرقوا في المحيط الأطلسي في محاولات يائسة للوصول إلى أميركا بحثاً عن الحرية وبعيداً عن سطوة الإنجليز. كانوا يدقون ألواح الأخشاب ويركبون "بحر الظلمات" ويغرقون في مراكب سميت "مراكب الأكفان". زيارة الملكة جاءت بعد سنين من توقيع السلام عام 1989 بين طرفي النزاع الذي استمر في إيرلندا الشمالية التي لا تزال تابعة لبريطانيا. اتفاق السلام ذاك الذي كان عرابه جورج ميتشل سمي باتفاق الجمعة المباركة (good Friday agreement). وقد منح الرئيس الأسبق كلينتون مهندسه ميتشل وسام الحرية مكافأة لجهوده في إحلال السلام بإيرلندا، وقال في حفل تكريمه حينها: "ليس هناك صراع لا يمكن إنهاؤه، فالإنسان هو الذي يخلق الصراعات ويعمل على استمرارها، وهو القادر على إنهائها، مهما كان الصراع قديماً ومهما كان بغيضاً ومهما كان مؤلماً، فلابد للسلام من أن ينتصر في النهاية". لكن الجمعة المباركة في إيرلندا، لم تكن كذلك في الشرق الأوسط، فبعد أكثر من سنتين من تعيينه مبعوثاً خاصاً لأوباما من أجل السلام بين العرب وإسرائيل، قدم ميتشل استقالته يوم 13 مايو -هذا الشهر- وقد صادف ذلك اليوم يوم جمعة!! ترى! هل يظن أن ذلك اليوم يوم "جمعة مشؤومة"؟ لقد تحطمت مقولة ميتشل وإيمانه بحل الصراع على صخرة الصلف والعناد الإسرائيلي ورفض السلام، وتكسرت مبادئ إيمانه بالسلام بين العرب وإسرائيل برفضها وقف بناء المستوطنات، وتجاهلها لمطالب رئيسه الأميركي بضرورة وقف قضم الأراضي الفلسطينية. الإسرائيليون لا يحترمون التاريخ، ولا يتطلعون للمستقبل، وهم الذين يعملون على استمرار الصراع ورفض السلام. لعل هذا ما خلص إليه جورج ميتشل العربي الأميركي دون أن يجرؤ على قوله في استقالته، وقد نقرأ هذا القول في مذكراته يوماً ما. الصراع الإيرلندي الإنجليزي حله ميتشل وأصبح جزءاً من التاريخ، لأن إرادة الطرفين دعمت جهوده، لكن إسرائيل ضربت بكل المطالب الأساسية للفلسطينيين عرض الحائط، وتجاهلت كافة الدعوات الدولية لوقف بناء المستوطنات، وأنهت مهمة ميتشل للسلام مع العرب. الإسرائيليون لا يتطلعون إلى المستقبل، ويعيشون في الماضي، ويريدون مسح التاريخ، ومصادرة الحاضر، واحتكار المستقبل. الإسرائيليون لا ينحنون للتاريخ من أجل المستقبل. في دبلن، لم تنحنِ الملكة إليزابيث لمن ماتوا، فلن تعيد لهم تحيتها الحياة، ولكنها انحنت للمستقبل، وهي المرأة العجوز التي شارف عمرها على التسعين، لكنها تدرك أن للمستقبل أجيالاً قادمة، وأن الانحناء ليس للتاريخ، لكنه للمستقبل، لقد انحنت الملكة لتاريخ المستقبل.