مر اليوم أربعون عاماً على المهمة السرية التي قام بها كيسنجر إلى الصين تمهيداً للزيارة التاريخية التي حملت الرئيس نيكسون بعد سنة إلى بكين، ومنذ المهمة الأولى لم يتوقف كيسنجر عن الذهاب إلى الصين، حيث تكررت زيارته لها والتي خرج منها، كما يقول في كتابه الذي نعرضه هنا، "حول الصين"، بدرس مفاده أنه من الصعب الحفاظ على وتيرة تعاون أميركي صيني دون انخراط جاد من جانب واشنطن. ويُعد كيسنجر من الآباء المؤسسين للمدرسة الواقعية في الدبلوماسية الأميركية، وهو يدعو إلى انتهاج مقاربة تجمع بين الواقعية التي تستجيب للمصالح القومية الأميركية، وبين المبادئ المثالية المنسجمة مع نظرة أميركا لنفسها كمبشرة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وقبل طرح اقتراحات حول المستقبل، يعود بنا كيسنجر ليستعرض تجربته الشخصية الطويلة والحافلة بالدروس المفيدة التي اكتسبها على مدار الأربعين عاماً الماضية في التعامل مع الصين، فمنذ أن تولى منصب مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، ثم بعد ذلك وزيراً لخارجيته، واستمراره في نفس المنصب خلال عهد جيرالد فورد، ورأيه مسموع من لدن الإدارات المتعاقبة، إذ لم يأت رئيس إلى البيت الأبيض دون الاجتماع بكيسنجر والتداول معه بشأن السياسة الخارجية الأميركية التي يعتبر المؤلف من أهم روادها. لكن التقارب في العلاقات الصينية الأميركية خلال الحرب الباردة التي كان كيسنجر أحد عرابيها، أملتها ظروف عالمية لم تعد موجودة اليوم، فقد اجتمع البلدان في تفكيرهما الاستراتيجي على معاداة الاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل خطراً على الصين كما على العالم الغربي، هذا بالإضافة إلى واقعية "ماوتسي تونج" الذي غلّب التعاون مع أميركا على المبادئ الأيديولوجية، وكان -كما يقول كيسنجر- أكثر انجذاباً إلى التراث الصيني القديم، لاسيما المفكرين والفلاسفة الكونفوشيين من ماركس ولينين. وفي هذا الإطار يشير المؤلف إلى المرات العديدة التي لجأ فيه القادة الصينيون إلى التراث الفكري والفلسفي لقراءة واقعهم الجيوسياسي، فقد اعتبر ماوتسي تونج أن الصين تتوسط قوى معادية تجعلها مطوقة بالكامل؛ فمن الجهة الشمالية والشرقية يمتد الاتحاد السوفييتي بإمكاناته الهائلة وطموحاته التوسعية التي انعكست في مناوشات عسكرية بين الجانبين على الحدود، ومن الناحية الجنوبية هناك الهند التي تنازع الصين مناطق حدودية في جبال الهيمالايا، فضلاً عن الشرق الذي مازالت تمثل فيه اليابان خطراً على الصين حتى بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية... لذا قررت النخبة الحاكمة في الصين تعميق التعاون مع الولايات المتحدة للحد من النفوذ السوفييتي، عملاً بالحكمة الصينية القديمة القائلة بأنه في حال تدهور العلاقة مع الجار القريب يحبذ التعاون مع الجار البعيد. لكن ماذا عن الوضع الحالي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة؟ للإجابة عن هذا التساؤل الكبير يذكرنا كيسنجر بمجموعة من المعطيات، فالصين نفسها تغيرت وليس فقط المحيط الجيوسياسي الذي ميز العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد تحولت "المملكة المتوسطة" من بلد يعاني من تداعيات الثورة الثقافية التي أزهقت ملايين الأرواح، إلى قوة اقتصادية صاعدة تزيد من حدة الاحتكاك مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى وضع الصين اليوم كأول مقتن لسندات الخزينة الأميركية، ومن ثم أكبر ممول للدين الأميركي. هذا الواقع الاقتصادي الجديد الذي يخشى منه الأميركيون يتقاطع مع خصوصية ثقافية يجهلها الأميركيون، فقد جرت العادة، يقول كيسنجر، في السياسة الخارجية الأميركية أن يتجاذبها تياران أساسيان، أحدهما يدافع عن الواقعية السياسية، النهج الذي اتبعه نيكسون ومن بعده بوش الأب اللذين غضا الطرف عن مسألة انتهاك حقوق الإنسان، لا سيما بعد اندلاع أزمة ساحة "تيانامين" بحيث اكتفت الولايات المتحدة بالإدانة العلنية فيما تواصل التعاون الاقتصادي. أما التيار الثاني فيتمثل في المثالية التي كان أحد أقطابها "المحافظون الجدد" من خلال رغبتهم في استنساخ قيم الحرية الفردية والديمقراطية في بلدان تعطي أولوية للاستقرار والنجاح الاقتصادي مثل الصين، ولتجاوز ما قد يحدث مستقبلاً من تدهور يؤدي إلى تأزم يفضي إلى الحرب، يدعو كيسنجر إلى استراتيجية أو ميثاق بديل يكون على شاكلة المجموعة الأطلسية التي نسجت خيوط تحالف وثيق بين ضفتي الأطلسي، وسماها كيسنجر بمجموعة المحيط الهادي لتضم الولايات المتحدة والصين إلى جانب البلدان الآسيوية الأخرى المرتبطة اقتصادياً واستراتيجياً مع أميركا دون شروط مسبقة؛ مثل الديمقراطية التي يراها المؤلف سيرورة داخلية قد لا تستجيب بالضرورة لطموحات واشنطن. وسيكون من نتائج مجموعة المحيط الهادي تخفيف حدة الاحتقانات بين القوتين، والتأسيس لتعاون اقتصادي مستدام يراعي انشغالات الطرفين ويؤصل لنظام عالمي جديد يقوم على تبادل المصالح بين أميركا والصين. زهير الكساب الكتاب: حول الصين المؤلف: هينري كيسنجر الناشر: بينجوين بريس تاريخ النشر: 2011