يدفع المفكر والمنظر السياسي الفرنسي "جاك آتالي" في عنوان كتابه الجديد: "غداً، من سيحكم العالم؟" قارئه إلى إثارة حزمة من الأسئلة، من قبيل: لمن ستكون الكلمة الأولى والأخيرة في النظام الدولي خلال العقود المقبلة؟ هل ستتحكم فيه أميركا مثلاً؟ الصين؟ الهند؟ أوروبا الموحدة؟ مجموعة "العشرين"؟ الأمم المتحدة؟ الشركات متعددة الجنسيات؟ المافيا؟.. ثم، أي بلد، أو تحالف بلدان، أو هيئات دولية، سيكون في استطاعته الاستجابة منفرداً للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي ستواجه العالم خلال العقود المقبلة؟ هل يمكن استمرار النظام الدولي الراهن بهشاشته واختلالاته، حيث تهتم كل دولة بمصالحها الأنانية فقط، وحيث يرفع كلٌّ شعار "ما عليَّ اليوم إلا نفسي"، دون وجود "مايسترو" ما يقود "أوركسترا" هذا النظام، بكل ما يجتاحه من فوضى وكوارث مالية، وانفلات ديمغرافي غير محسوب، وحروب طاحنة، وندرة متفاقمة للموارد الغذائية والمواد الأولية، وتردٍّ كارثي للظروف البيئية، وغيرها من تحديات لا شيء يضمن عدم خروجها عن السيطرة من هنا وحتى سنة 2030 القريبة؟ هل سيكون من الأفضل مثلاً ترك تدبير شؤون العالم للأديان؟ للإمبراطوريات؟ الأسواق؟ أم أنه سيتعين على كل أمة أن تغلق حدودها على نفسها، وتعمل منفردة لمواجهة تحدياتها الخاصة؟ يثير الكاتب ضمناً كل هذه الأسئلة، ولكنه يجيب صراحةً على سؤال آخر، بطريقة رسولية شبه أصولية، مؤكداً أن الإنسانية ستكتشف في يوم ما، قريب أو بعيد، أن في انتظارها الكثير من المكاسب إن هي أقدمت على الالتفاف حول حكومة ديمقراطية دولية واحدة تسيّر بشكل كامل شؤون العالم أجمع وتكون بمثابة "ولايات متحدة عالمية" أو اتحاد دول عالمي، على أن يتم ذلك بطريقة ديمقراطية إنسانية تضمن تحقق مصالح الإنسانية كلها وليس فقط تمرير مصالح الأمم الأكثر نفوذاً وقوة. وفي الوقت نفسه على حكومة العالم المنشودة هذه أن تدير الاختلاف داخل التعدد، فتسهر على صيانة وتثمين هوية كل حضارة أو ثقافة إنسانية على حدة، دون طغيان لثقافة على أخرى، أو استبعاد لثقافات الأطراف لصالح ثقافة المركز، وفق تصنيفاتنا الراهنة طبعاً. ويذهب المؤلف في رؤيته، أو بالأحرى رؤياه، إلى أن هذا القرن لن ينتهي قبل أن تصبح للعالم هذه الحكومة الموحدة لكي تدير شؤونه. والحكومة هنا بمعناها الواقعي، لا الرمزي أو المجازي اليوتوبي الحالم. فحكومة العالم المنشودة ينبغي أن تكون واقعية وحسية ومكتملة الشروط والأركان، بحيث تكون لها أجهزة إدارية، ومالية، وجيش، ومحاكم... الخ. وهنا ربما يستحق الكاتب، وهو المنظر المتحمس لمقولات الحكامة العالمية، أن نتحول إليه، وهو يستعرض ما يعتبره خطوات وآليات ضرورية لظهور حكومة عالمية، داعيّاً إلى التوافق على نظام حكم سياسي موحد فعال قادر على مجابهة النفوذ المتعاظم للأسواق على حساب الحكومات الراهنة، وكفيل بمجابهة تحديات الفقر والأوبئة وجماعات الجريمة والإرهاب على صعيد عالمي. والأهم أن تكون له دورة اقتصادية فعالة وعملة موحدة (يمكن بناؤها على سلة من ثلاث رافعات نقدية هي اليورو والدولار واليوان)، وأجهزة تمثيل حكومية وتشريعية منتخبة من قبل مواطني العالم كلهم.. الخ. ويرى "آتالي" أن قيام حكومة عالمية واحدة، ذات سلطة نافذة على الجميع، ليس أبداً شطحة أو فكرة جديدة، بل هي فكرة مستبطنة قديمة قدم الوعي بوحدة الجنس البشري نفسه. تماماً مثلما أنها ليست أيضاً مجرد حلم طوباوي معلق في فراغ الخيال، أو المجاز، في رأيه. إنها ضرورة إنسانية ستفرض ذاتها مستقبلاً، مثلما فرضت فكرة الدولة الوطنية نفسها أصلاً حين قامت على تجمع لعدد من الأقاليم المتجانسة، وكذلك فكرة التجمعات الإقليمية التي تضم عدداً من الدول المتقاربة، وهكذا ينبغي أن يسير مآل التطور إلى قيام الدولة أو الحكومة العالمية الواحدة. ولكن، سياسيّاً وواقعيّاً، هل ستقام حكومة عالمية من هذا القبيل، يوماً ما، بحكم منطق وحتميات التطور التاريخي الخطي لبناء مؤسسات الحكامة العالمية، حسب رأي الكاتب، أم أن قيامها سيفرض نفسه حصراً بعد حدوث كارثة هائلة، أو تلافيّاً لحدوثها؟ هذا ما يفتح المؤلف مجال التأمل واسعاً للتفكير فيه، مقدماً رؤى استشرافية يعتبرها كفيلة بتحقيق غد أفضل للإنسانية جمعاء، وحتى لا يرتمي العالم في مستقبل كئيب من الرعب المسيج بالأزمات المالية، والبيئية، والوبائية الجارفة. يذكر، أخيراً، أن المؤلف "جاك آتالي"، مفكر مستقبلي وأستاذ بارز للاقتصاد، وقد عمل مستشاراً للرئيس الفرنسي الأسبق ميتران قرابة 20 سنة، كما أصدر أكثر من 45 كتاباً في مجالات مختلفة، ترجم بعضها إلى 20 لغة. وفي هذا الكتاب، الذي يمكن أن يتهم فيه، على الأقل، بالتأملية، وبعبور الخطوط الوهمية الفاصلة بين علم المستقبليات و"اليوتوبيا"، تتحول نزعته الاشتراكية الإيديولوجية الحالمة من الإدانة الصاخبة لواقع النظام الدولي الراهن، إلى التنظير "المنهجي" لنظام دولي بديل. وهو تحول صعب يتحقق عبر مخاض نظري عسير، ومسارات منهجية وخطابية حافلة بلمحات وسرديات "اليوتوبيات" الكبرى الطافحة بالأحلام... والأوهام أيضاً. حسن ولد المختار الكتاب: غداً، من سيحكم العالم؟ المؤلف: جاك آتالي الناشر: فايار تاريخ النشر: 2011