لا يمكن لأي إصلاح سياسي عربي أن يتم بمعزل عما دار ويدور من أفكار وسلوكيات وأحداث في سياق أوسع، قد يمتد ليشمل المعمورة بأسرها. فالنخب السياسية والفكرية العربية لا تعمل في فراغ، بل تستمد بعض وجودها وتوجه جزءاً من خطابها إلى نخب أخرى تتواجد في بلاد شتى. والتحركات السياسية والدبلوماسية للعرب لا تتجه إلى مجهول وإنما لأمم وشعوب أخرى. والتطور السياسي والاجتماعي الذاتي لا يعتمد على العناصر المحلية فقط، بل يتأثر بما يجري في المحيط الأكبر. وعلاوة على هذا فإن إغفال ما تراكم من تجارب وأفكار لدى "الآخر" يجعل بذل أدنى مجهود في سبيل بناء أطر فكرية لمشروع إصلاح سياسي عملًا منقوصاً إلى حد كبير. وإذا كان بعض الناس قد شغلتهم "عولمة" الأشياء في الوقت الراهن ، فإن الأفكار والمعتقدات كانت "معولمة" منذ زمن طويل. فالإسلام مثلاً دين عالمي، نزل للبشرية جمعاء، ولم يقتصر على قوم بعينهم، كحالة الأديان السماوية الأخرى، أو الأديان الوضعية التي انتشرت في بقع جغرافية وأوساط اجتماعية محددة. ولذا نجد أتباع هذا الدين منتشرين في كافة الأنحاء، بعد أن بذلت "الدعوة" في الإسلام، جهداً متواصلاً في سبيل تحقيق هذا الهدف. والمسيحية، وعبر حركة مستمرة من "التبشير" جمعت حولها المؤمنين بها في شتى الأصقاع. وفي عالمنا المعاصر، وبالنسبة للمذاهب الإنسانية، نجد أن الشيوعية لم تقتصر على الدولة التي شهدت أول ثورة من أجلها، وهي روسيا القيصرية، بل امتدت إلى أقطار أخرى، فأخذت بها أنظمتها السياسية، أو اعتقدت فيها جماعات بدول لم تتبن أنظمتها الشيوعية مذهباً سياسيّاً، فحدثت بين الجانبين مواجهات ومصادمات، تركت بصمتها على التطور السياسي والاجتماعي. والليبرالية لم تظل حبيسة أوروبا، التي شهدت ولادتها، بل انتشرت لتصبح غاية لمجتمعات عديدة في أرجاء الأرض. ووصل الاعتقاد ببعض أتباعها إلى اعتبارها النموذج الأصلح لأي مجتمع في أي مكان من الآن فصاعداً. ولكن قبول الأشياء المعولمة يبدو أكثر يسراً من الرضا بالأفكار المعولمة. وقد شغلت هذه القضية أذهان كثيرين، فلم يجدوا غضاضة في استيراد التقنيات والسلع من الغرب المتقدم صناعيّاً، وفي المقابل رفضوا بشكل قاطع أن يأخذوا ما أنتجته القريحة الغربية من أفكار فلسفية واجتماعية وسياسية على علاتها، ووصل الأمر بالبعض إلى القول إن التكنولوجيا ليست بريئة تماماً، لأنها لا تنفصل عن ذهنية المجتمع الذي أنتجها، ما يعني أن عولمة الأشياء لا تحظى بقبول شامل، خاصة في ظل رغبات وطنية بالمنافسة في مجال إنتاج السلع والخدمات والتقنيات. إن الحديث عن كون نظرية اجتماعية ما تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان يبدو من ضروب الخرافة، فالأماكن تختلف والأزمنة تتبدل والمجتمعات في صيرورة دائمة، والبشر ليسوا متماثلين في مشاربهم وأهوائهم. وحتى الأديان لم تدع إطلاقية في الزمان والمكان في الجانب الخاص بالمعاملات الإنسانية والاجتماعية، وفصلت بين العقدي الذي لا يمسه تغيير والتعبدي الذي لا يستبعد ما تفرضه بعض الظروف، والاجتماعي المتغير حسب الحال وبما لا يجافي روح النص، أو يخرج على المقاصد الأساسية للشرع الإلهي. ومن يخلط بين هذه الروافد الرئيسية للدين، بحيث يريد أن يصبغ الاجتماعي بإطلاقية العقدي، يبدو في رأي المستنيرين، الذين يُعملون عقولهم حسب ما يفرضه الشرع ذاته، متطرفاً، أو حروفيّاً، أي يتعامل مع النص بمعزل عن سياقه الزماني والمكاني، أو ما يطلق عليه الفقهاء "سبب النزول"، ولا يرغب في أن يكون للاجتهاد نصيب من التصور العام للتعامل مع مسألة أو قضية أو حالة ما. وهذا الموقف يريد أن يشدنا إلى الوراء ويبطل عمل المضغة العظيمة التي منحنها الله إياها وهي العقل، ولذا فإن مثل هذا الطرح يجب أن يرفضه كل من يريد لأمته تقدماً ورفعة. وإذا كانت تلك الرؤية تنطبق حتى على الدين، بجلاله السماوي وتجذره العميق في الأنفس وانتشاره العريض بين البشر، فإنها من باب أولى يجب أن تمثل عنصراً أساسيّاً في التعامل مع الطروحات البشرية المتماسكة نسبيّاً، من فلسفات ومذاهب، بحيث لا نقبل أن يدعي أحد واضعيها أو من يؤمنون بها أن لها مقومات تجعلها قابلة للتطبيق بحذافيرها في الأمكنة كافة، أو أن التاريخ البشري ذاهب إليها حتماً، كما تطرح الشيوعية، أو أن هذا التاريخ تجمد عندها كما يدعي فرانسيس فوكوياما بالنسبة لليبرالية، المجسدة في الديمقراطية سياسيّاً والرأسمالية اقتصاديّاً. فالحديث الواثق عن حتميات يسير التاريخ البشري إليها أو تتابع خطاه وفق ما تنطوي عليه من أبنية وغايات، لا يختلف في عنصريته ونرجسيته وأخطائه عن الحديث عن "حتميات بيولوجية" تقوم على العرق والدم وتهمل الروافد الحضارية كافة. وحين تطرح الأديان نهاية لتاريخ البشر على الأرض فإنها تبني ذلك على قيم عظيمة من الحق والخير والعدل والجمال، وتنتصر لكل من ينحاز لهذه القيم، وليس لعنصر ما أو فكرة ما، مصابة بعورات عديدة مهما حاول طارحها أن يقدمها في صورة متكاملة، وهو ما أظهره النقد البناء والمتواصل لكافة الطروحات التي عرفتها الإنسانية. وعلى النقيض من "حتمية" بعض الطروحات الفكرية كانت السياسة، أو بمعنى عام التفاعل مع القضايا المجتمعية، تسير وفق منطق نسبي ينحاز أكثر إلى "إجراءات التفاوض" التي تقوم على أنه في ظل تعارض الإرادات والمصالح يكون من الصعب حسم الأمور الجوهرية، ولذا يجد المتفاوضون أنفسهم يبذلون جهداً بالغاً من أجل التوصل إلى حل وسط، لا يحقق للجميع كافة ما يصبون إليه من أهداف، بل يوفر لكل طرف جزءاً من غاياته. ويتبسط هذا الوضع أو يتعقد حسب كل حالة تفاوض أو مناقشة أو حتى جدل حول قضايا أساسية، يؤكد الجميع أنها تمس "عصب" وجوده واستمراره، خاصة إذا كانت لها جذور تاريخية، وتتجلى بصيغ معينة في الواقع المعيش، ويتوقع أن تكون لها انعكاسات في المستقبل المنظور. وبقدر شطح الفكر إلى المثال دون وضع إجراءات تطبيقية في الواقع، ووفق درجة ارتماء الممارسة في أحضان البراجماتية البحتة، تتسع الفجوة بين ما يجب أن يكون وما هو كائن. وهذه هي إحدى المشكلات الجوهرية التي واجهت الأيديولوجيات. ولا يعني هذا أن المطلوب هو اتباع منطق "إجراءات التفاوض" في تطبيق الفكر في الواقع، ولكنه يؤكد ضرورة ألا تحلق الأفكار في عالم الخيال بعيداً عن ظروف البشر وأحوالهم، الذين يراد لتلك الأفكار أن تطبق عليهم، أو تجد طريقها إلى حيز التنفيذ على أيديهم.