يشهد الوطن العربي حالة حوار صاخبة تناقش مستقبل الأمة، وتنشغل بها كل وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، وكثيراً ما يدعى إليها محللون وباحثون من دول مختلفة، ولم يكن هذا الحوار غائباً من قبل، ولكنه كان يتم بين طرفين يرفض أحدهما الاعتراف بالآخر. ولكن زمن التحولات فرض مرحلة جديدة على شكل الحوار ومضامينه، وبدأت السلطات تدرك حاجتها لسماع الرأي الآخر بعد أن تفجر صمته، وكشف الغطاء عن مفاسد لم يكن يعرف بعض القادة أنفسهم حجم إضرارها باستقرار حكمهم، وتهديدها لنظامهم السياسي. وقد صارت جملة بن علي "الآن فهمتكم" عنوان تجربة سياسية قضت على نفسها بسبب سوء الفهم، ولو أنها فهمت أبكر قليلاً لكان بوسعها(ربما) أن تنجو مما حدث بأقل الخسائر. ونجاح بعض التحولات، وانطلاق الاحتجاجات الشعبية وما رافقها من حراك إقليمي ودولي غيّر كثيراً من القدرة على الفهم، فمضى بعضه إلى الأسوأ، ومضى بعضه الآخر إلى تدارك قلق مضطرب قبل الوصول إلى ما يهدد الأمن والاستقرار. وبعض هذه التحولات كان جياداً أصيلة تصهل بقوة معبرة عن شوق مديد لجري خارج حصونها المغلقة، ولم يكن على صهواتها من يقود جريها ويوجه حراكها، فامتطى بعض صهواتها من تمكن من القفز فوقها، ومضى ببعضها بعيداً عن الهدف، وصح على بعضها القول "اختلط الحابل بالنابل". ولئن كانت تونس ومصر قد تمكنتا من حسم الماضي فإنهما لم تتمكنا بعد من رسم صورة المستقبل، وهذا أمر طبيعي، فلابد للتحولات الكبرى من أن يستمر لهيبها رسيساً ينضج مائدة حوارها على نار هادئة، والمفجع أن ينفخ في النار من يوقدها حيناً بعد حين فيحرق بعض ما أنجزت، ليعود الحراك من جديد إلى الشارع بما قد يتحول إلى فوضى بعد أن وضعت الأوضاع قيادها بيد حكومات تحتاج إلى استقرار كي تتمكن من البدء بتحقيق ما يريد الشعب، ولكن عين قوى التحول يجب ألا تغفل لحظة عن الرقابة كي لا تنحرف المسيرة عن أهدافها عبر ما يحاك من الداخل والخارج في التفاف محتمل على أهدافها السامية . وأما في سوريا فيبدو الحراك الراهن إشكالية كبرى أعتقد أنها أخطر ما واجهت سوريا من أزمات سياسية، ولا مخرج منها دون مزيد من الفواجع إلا بالحوار الذي يمتلك أسباب نجاحه، وأهمها إعلان القيادة السورية بأن ما يطلبه الشعب من إصلاح جذري هو حاجة معترف بأهميتها وبضرورة إنجازها. ولكي ينجح هذا الحوار لابد من تمتين أرضية الثقة عبر إجراءات توفر للحوار أجواءه وبيئته المطمئنة، مع وضع آليات توافقية تحدد شكله ومساره وأطرافه. وأرجو أن يكون قانون الأحزاب الذي أعلن عن إعادة دراسته لإقراره، فاتحة رؤية للمستقبل السياسي فهو لابد من أن يقدم إجابة عن المادة الثامنة من الدستور التي تمنح "حزب البعث" مسؤولية قيادة الدولة والمجتمع، وتغيير هذه المادة سيجعل الانتخابات البرلمانية القادمة مختلفة عما كان يحدث، وسيفتح الآفاق لكل القوى السياسية الوطنية دون إلغاء أو إقصاء للمشاركة الجادة في قيادة الدولة والمجتمع. وأتوقع أن يجد هذا التغيير مخاضاً عسيراً، وحواراً عميقاً. ولكنني أتوقع كذلك أن الإصلاحيين (وهم كثر في حزب البعث) سيجددون نشاط حزبهم وحيويته حين يعودون إلى ساحات المنافسة السياسية، لاسيما لكون مبادئه وطنية وعروبية. ولئن كان الحزب لم يتمكن من تحقيق الوحدة التي هي شعاره الأول لظروف دولية وعربية معروفة، ولم يتمكن كذلك من تحقيق الاشتراكية التي تبدلت مفاهيمها، وقد استجاب فكر الحزب عمليّاً للمتغيرات الدولية الكبرى، ولاسيما على الصعيد الاقتصادي، فإن الهدف الأهم الذي بوسعه أن يحققه بسهولة وبقوة هو شعاره الوسيط (الحرية) وهي المطلب الذي ينادي به المتظاهرون، وتقر القيادة بأنه مطلب حق، وهو لا يعني انفلاتاً من سيادة القانون، بل أفهم أنه يعني سيادة القانون، وإعطاء الشعب حق التعبير بشفافية وثقة وانفتاح أكبر. ويعني تمتين بناء الدولة المدنية، وإخفاء معالم الدولة الأمنية التي ستبقى قواها موجودة بالضرورة، ولكن دون تماس مع الحياة اليومية للمواطنين، ولاسيما بعد أن تم إنهاء العمل (قانونيّاً) بحالة الطوارئ، وبعد أن تم إنهاء عمل القضاء الاستثنائي. ومن المعروف أن أسس الدولة المدنية تبدأ بسيادة القانون (فلا قداسة لأحد فوقه مهما كان موقعه) ومن مبادئها المعروفة أن الشعب هو مصدر السلطة، وهو يعني فصل الدين عنها (وهذا قائم في سوريا مع الاحترام العميق للأديان وكونها مرجعيات للسلوك الأخلاقي والاجتماعي العام مع ضمان حريات الاعتقاد وممارسة الشعائر والأعراف) ومن الأسس المهمة ضمان مبادئ الديمقراطية التي تتيح لكل مواطن أن يدلي برأيه في الشأن العام عبر كل وسائل التعبير. وأرجو أن يلبي قانون الإعلام الجديد هذه الاحتياجات بضوابطها المعروفة عالميّاً، وأن يرسم مرحلة جديدة للإعلام في سوريا بعد أن ثبت عقم ما آل إليه الحال، ولاسيما في التركة المتوارثة التي باتت عبئاً ثقيلاً على الإعلام الرسمي. ومن الأسس المهمة كذلك الفصل الكامل بين السلطات، وإعلاء شأن القضاء والحرص على استقلاليته، ومنح السلطة التشريعية البرلمانية حريتها الكاملة وضمان مصداقية تمثيلها للشعب في انتخابات نزيهة. إنني أدرك أن حساسية الموقف ستجعل بعض الناس يرفضون الحوار، وبعضهم سيعلي سقف مطالبه إلى حد قد يجعلها مرفوضة من الآخر، وأنا لا أخون أحداً، فلست قاضيّاً في محكمة كي أتهم أحداً أو أطلق أحكاماً، ولكنني أدرك أن الشعب السوري أمتن من أن يخترق فهو مشبع بالوطنية الصادقة، ولا يستطيع أحد أن يستغل غضبه فيحرفه عن أصالته، وأنا واثق من حكمة شعبنا، ومن حصافة رؤيته، وهذا ما يجعلني أؤكد على أن الحوار وحده هو المخرج الآمن مما نحن فيه من بلاء أخشى أن يكبر. ومهمتنا الوطنية أن نلم من جديد شمل أسرتنا السورية التي قدمت عبر القرون مثالاً يحتذى في جعل المحبة والتآلف والتكاتف والتعددية ثراء وعيشاً آمناً مستقرّاً، وأن نمجد كل شهداء الوطن، وأن نجعل دماءهم الطاهرة التي ينبغي ألا يهدر حقها علينا، منارة تضيء طريق المستقبل.