حتى نقتنع بازدواجية ما يطرحه الجمهوريون من حلول لمواجهة العجز المالي الكبير في الولايات المتحدة دعونا نتعقب طريقتهم في مقاربة الموضوع والتعرف على أسلوبهم في لجم العجز والحد من الدين العام الذي ينوء تحت ثقله دافعو الضرائب الأميركيون. بداية دعونا نعترف مع الجمهوريين بأن الشعب مفلس ولا يستطيع تحمل المزيد من الضرائب التي ستثقل كاهله وتدفعه إلى مزيد من التقشف في الاستهلاك المضر بالدورة الاقتصادية. لكن ماذا عن أغنياء أميركا وأكثرهم ثراءً. لاشك أن 400 أغنى أميركي يستطيعون اقتطاع جزء من مداخيلهم لصالح الحكومة الفدرالية في شكل ضرائب يستفيد منها باقي الأميركيين، فبينما كان هؤلاء في عام 1955، حسب "الحملة من أجل مستقبل أميركا"، يسددون 2.51 في المئة من مداخلهم التي وصلت 3.13 مليون دولار كمعدل للفرد، إلى الحكومة الفدرالية، لا يدفعون اليوم سوى 1.8 في المئة، علماً بأن متوسط دخلهم ارتفع إلى أكثر من 270 مليون دولار، دون أن ننسى أنه في الخمسينيات لم نكن نواجه الضائقة المالية الحالية التي تكاد تدفعنا إلى الإفلاس. لكن رغم ذلك يصر الجمهوريون على سوق حجج أخلاقية ومالية لتفسير كرههم للحكومة الفدرالية وتزايد تدخلها، وهو ما تعبر عنه وثيقة "خريطة الطريق" الجمهورية التي صاحبت نشر الجمهوري "بول رايان" لمقترح موازنته. فقد جاء في تلك الوثيقة ما يلي: "لقد عُرف الأميركيون في كل مكان وحظوا بالتقدير لإصرارهم على تحمل كامل مسؤولياتهم بشأن جودة الحياة التي يتوقون إليها، وهم في سبيل ذلك يعتمدون على جهدهم الخاص وعلى المبادرة... لكن مع مرور الوقت بدأ الأميركيون ينظرون إلى الحكومة باعتبارها مصدرهم الأساسي للدعم، وقد جُروا للاعتماد على القطاع العام لزيادة حصتهم من الحياة الكريمة. والحال أن هذا التوجه يقضي على المبادرة الفردية والمسؤولية الشخصية". ولتصويب الاختلالات المالية والتبذير الحكومي، كما يراه الجمهوريون، مرروا مشروع موازنة في مجلس النواب يقوم أساساً على ترسيخ فرص المبادرة الحرة وتدعيم أسس المسؤولية الفردية، ليس على من تنطبق عليهم هذه المبادئ ممن هم في ريعان الشباب ومازالوا قادرين على العمل، بل لجؤوا إلى الحلقة الأضعف ممثلة في كبار السن والمتقاعدين، مطالبين بخفض امتيازاتهم من برامج الرعاية الصحية التي توفرها الدولة والمعروفة في أميركا باسمي "ميديكير"، و"ميدكيد"، وهما برنامجان يُخصصان ثلثي تمويلهما لدور رعاية المسنين. وبتحويل "ميديكير" من ضمانة لدفع مصاريف العلاج الطبي للمسنين إلى مجرد بوليصة لشراء التأمين من شركات خاصة، ترتفع حصة النفقات التي يتعين دفعها من قبل المريض المسن، حسب مكتب الموازنة في الكونجرس، من 25 في المئة من المصاريف إلى 68 في المئة. ولكم أن تتخيلوا المعاناة التي سيتكبدها هؤلاء المتقاعدون في الحصول على الدواء في ظل الموازنة المقترحة. وحتى لو اتفقنا جدلاً مع الجمهوريين أنهم محقون في التشدد لخفض العجز واستهداف فئات مثل المسنين لحرمانهم من امتيازاتهم الاجتماعية بحجة أن ذلك يضر بروح المبادرة الفردية... فإلى أين نتجه في هذه الحالة، ومن نستهدف من فئات المجتمع أو القطاعات الأخرى التي يتعين حرمانها من الدعم الفدرالي؟ لحسن الحظ، تكفلت "مؤسسة الضرائب"، وهي مركز للتفكير محسوب على المحافظين، بالإجابة عن السؤال حيث فضحت تهافت الجمهوريين دون أن تدري. ففي عام 2007 نشرت المؤسسة استبياناً لنفقات كل ولاية على حدة خلال عام 2005 وإسهامها من الضرائب للحكومة الفدرالية، وبعبارة أخرى فقد رصدت الدراسة تلك الولايات التي تستنزف الحكومة الفدرالية والأخرى التي تمولها، أي الولايات المستفيدة من رعاية واشنطن ونظيرتها المسؤولة والمنتجة للثروة والمال. ومع أن النتيجة لم يتم تحديثها منذ ذلك الوقت -ربما بسبب عدم رضا الجمهوريين والمحافظين على نتائجها- فإنها بينت أن الولايات التي تحصل على أكبر دعم حكومي هي تلك الواقعة تحت حكم الجمهوريين، فقد اتضح أن أكبر عشر ولايات تحصل على أموال دافعي الضرائب هي بالترتيب: نيو مكسيكو وميسيسيبي وألاسكا ولويزيانا وويست فرجينيا ونورث داكوتا وألباما وساوث داكوتا وكانتاكي وفرجينيا. وفي مقابل ذلك هناك الولايات العشر التي ساهمت أكثر من خلال الضرائب وحصلت على الأقل وهي بالترتيب أيضاً: نيوجيرزي ونيفادا وكونيكتيكات ونيوهمبشير ومينيسوتا وإلينواي وديلاوير وكاليفورنيا ونيويورك وأخيراً كولورادو. وفيما عدا التغيرات التي حصلت منذ ذلك الوقت والتي يتوقع أن تكرس الواقع بدلاً من تبديله، فإن التقسيم سيظل نفسه، اللهم إذا كان القطاع الصناعي والزارعي أصبح أقل تلقياً للدعم من نظيره المالي والتكنولوجي في الولايات الديمقراطية، وهو أمر مستبعد تماماً، فمن الواضح أن الولايات التي تستنزف الميزانية العامة هي تلك التي تمثل القاعدة الانتخابية للجمهوريين، فيما تلك التي تنتج الثروة تمثل قاعدة للديمقراطيين، لذا يقتضي منا الصدق أن نعمل، إذا كنا فعلاً جادين في تقليص العجز، على خفض إنفاقنا على الولايات المتكاسلة. ولأنه لا يتوقع من الجمهوريين دعم التشريعات التي تضع حداً لتراخيهم وإدمانهم على الدعم الفدرالي، فإنه يتعين تجريدهم من تمثيلهم النيابي في الكونجرس ومن هيئاتهم الناخبة وحملهم على تسديد ما يدينون به لأميركا المنتجة، إذ لا يمكننا الاستمرار في تمرير ديوننا إلى الأجيال اللاحقة. هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"