"الفرادة الإنسانية" موضوع طالما كتب عنه علماء النفس، ورجال الدين، وعلماء الأخلاق، وأصحاب المذاهب العقلانية والوجودية، والمنظرون الاجتماعيون والثقافيون. والتهديد الذي يتعرض له حالياً إحساس الإنسان بفرادته، إنما يأتي من آلات اخترعها هو نفسه وهي الحواسيب. فهذه الحواسيب أصبحت تضيّق من نطاق الأنشطة التي كانت تقتصر على البشر من قبل، ما جعل الإحساس بالفرادة يتقلص تدريجياً لدى الإنسان، بل أصبح هناك من يخشون أن يأتي يوم يزول فيه ذلك الشعور تماماً، بعد أن تصبح الحواسيب قادرة على أداء كافة وظائف الوعي البشري. السؤال الذي يطرحه الشاعر "برايان كريستيان"، مؤلف كتاب "الإنسان الأكثر إنسانية... الدفاع عن الإنسانية في عصر الحاسوب"، والذي نعرضه هنا هو: هل ذلك ممكن؟ وفي إجابته يبدأ بالقول إن انتشار الحواسيب سوف يؤدي إلى زيادة إحساسنا بما يعنيه أن يكون الإنسان إنساناً. وهو يختلف عن غيره من الكتّاب الذين يخشون من زيادة دور الآلة في حياة البشر المصابين بـ"التكنوفوبيا"، أي الخوف المرضي من التكنولوجيا، إذ يرى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يثري الحياة البشرية، بإضاءة نواحي تميز الذكاء البشري. ويقدم الكاتب دراسة معمقة عن تاريخ الذكاء الاصطناعي، ويسرد الأبحاث التي قدمها عن هذا الموضوع الشيق في إطار مشاركته في فعاليات جائزة "لوبنر" للذكاء الاصطناعي المسماة على عالم كمبردج الراحل "آلان تورينج"، الذي عمل في مختبرات "بليتشلي بارك" خلال الحرب العالمية الثانية، وساعد على فك الشفرات التي كان يستخدمها "المحور" عن طريق استخدام حاسوب بدائي سماه "كولوساس". وفي ورقة مبدئية قدمها تورينج عام 1950، تنبأ بأن تكون الحواسيب قادرة بحلول عام 2000 على خداع 30 في المئة من القضاة في مسابقات الذكاء الاصطناعي، وإقناعهم بأنهم يتحادثون ليس مع أجهزة آلية، وإنما مع بشر مثلهم. وحتى حلول عام 2008 لم تكن نبوءة تورينج قد تأكدت حيث خسر البرنامج المقدم في المسابقة المذكورة والذي كان بإمكانه أن يحقق تلك النبوءة بفارق صوت واحد فقط. لكن في مسابقة هذا العام الذي شارك فيها المؤلف، حقق الإنسان نصراً مؤزراً على الآلة. فرغم أن الحواسيب كانت قد وصلت إلى ما أطلق عليه المؤلف "عتبة تورينج" عام 2008 حيث كسبت الأصوات المطلوبة تقريباً، باستثناء صوت واحد، فإنها في عام 2009 لم تحصل على صوت واحد في إطار محاولتها لإقناع قضاة المسابقة بأنهم يتحدثون مع بشر مثلهم. وذهبت جائزة أكثر إنسان من حيث الإنسانية للمؤلف نفسه. والآن ما هي القدرات الإنسانية التي لا تستطيع الحواسيب تقليدها؟ يجيب المؤلف: "إذا ما كان الشعر يمثل الطريقة الأكثر تعبيرية على الإطلاق في استخدام اللغة، فقد يكون في هذه الحالة الشيء الأكثر بشرية مما لا تستطيع الحواسيب تقليده أو الإتيان بمثله". ويضيف كريستيان: "إن البراعة المدهشة التي تتميز بها الحواسيب تعتمد على قدرتها الفائقة على التفكير رقمياً باستخدام المعلومات التي يتم تقسيمها إلى عدد كبير من النقاط السرية". وهذا تحديداً سبب عدم قدرتها على مجاراة البشر في نظم الشعر والتعبير عن الأحاسيس الإنسانية. فالشيء المميز للشعر، وللغة الإنسانية عامة، هو الدور الحيوي للسياق وللتلميحات التي لا يمكن تقسيمها إلى وحدات معلوماتية منفصلة. فالمحادثات الإنسانية لا تتكون من عدد لا نهائي من الجمل، وإنما تتم على خلفية من التفاهم الضمني، ما يجعل المسكوت عنه لا يقل في أهميته عما يقال. وفي نهاية كتابه يرى المؤلف أن انتشار الحواسيب في حياتنا يجب ألا يؤدي إلى تآكل الحس الإنساني، وذلك من خلال التركيز على الأشياء التي تجعلنا مختلفين عن الآلة. وإذا ما أردنا أن نتخذ من التاريخ هادياً ومرشداً، فسنتوصل إلى أن البشر في المستقبل سوف يفعلون كل شيء من أجل الهروب من واقعهم. فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يرفض أن يكون هو نفسه، وهذا ما يجعله متميزاً عن الآلة في إطار صراعه اللانهائي معها. سعيد كامل الكتاب: الإنسان الأكثر إنسانية... الدفاع عن الإنسانية في عصر الحاسوب المؤلف: بريان كريستيان الناشر: فايكنج تاريخ النشر: 2011