خلال الاجتماع الموسع للدول المانحة لبرنامج مكافحة شلل الأطفال، والدول المستفيدة، الذي عقد قبل أيام قليلة في مدينة جنيف بسويسرا، على هامش اجتماعات الجمعية العمومية لمنظمة الصحة العالمية، أشاد الحاضرون وعلى رأسهم "كاثرين سابيلوس" وزيرة الصحة الأميركية، بالعطاء السخي الذي قدمه الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، و"بيل جيتس" الرئيس المشارك لـ"مؤسسة بيل ومليندا جيتس"، المتمثل في تخصيص 100 مليون دولار مناصفة، لدعم برنامج مكافحة شلل الأطفال في بعض الدول، وبرامج مكافحة أمراض معدية أخرى، من خلال التطعيمات. وكان قد أعلن عن هذا العطاء خلال زيارة الملياردير الأميركي "بيل جيتس" لأبوظبي في نهاية شهر يناير الماضي ولقائه مع سمو الشيخ محمد بن زايد. فمن خلال شراكة بين دولة الإمارات وبين "مؤسسة بيل ومليندا جيتس"، سيتم إنشاء صندوق بقيمة 100 مليون دولار -مناصفة بين الشريكين- يوجه ثلث قيمته عبر منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) لمكافحة مرض شلل الأطفال، بينما سيخصص الثلثان الباقيان من قيمة الصندوق لتوفير تطعيمات مماثلة لعدد من الأمراض المعدية التي تصيب الأطفال مثل الالتهاب الرئوي، والدفتيريا، والسعال الديكي، والتيتانوس، والتهاب الكبد (ب)، والحمى الشوكية أو التهاب السحايا. ويأتي إنشاء وتمويل الصندوق الأخير المخصص لدعم حملات التطعيم حول العالم نتيجة الإدراك العميق لقيادات الدولة ومنظمات المجتمع الدولي لمدى فعالية التطعيمات الطبية في الوقاية من العديد من الأمراض المعدية، وخصوصاً تلك التي تتسبب سنويّاً في وفاة الملايين من الأطفال حول العالم، حيث تستخدم التطعيمات منذ عقود لحماية الإنسان -أو الحيوان- من الآثار المرضية الناتجة عن العدوى بميكروب ما، سواء كان هذا الميكروب بكتيريا أو فيروساً. وحسب نوع الميكروب الذي تراد الوقاية منه، يمكن أن يتكون التطعيم من ميكروب حي كامل، تم إضعافه وفقد شراسته أو قدرته على إحداث المرض، أو أن يتكون من جزيئات صغيرة من جسد الميكروب. ويهدف الأطباء من حقن مثل تلك المواد داخل الجسم إلى تعريف جهاز المناعة بها، ومن ثم تدميرها، وتذكرها لاحقاً. فجهاز المناعة له "ذاكرة" يمكنه من خلالها تذكر المواد الغريبة التي دخلت الجسم، واسترجاع أفضل الطرق وأكثرها فعالية في القضاء عليها. ولذا عندما يصاب الشخص لاحقاً بالميكروب كامل الحيوية وبالغ الشراسة، يكون جهاز المناعة بميكانيزماته المختلفة، وآلياته الدفاعية المتعددة، على أهبة الاستعداد، وعلى درجة قصوى من اليقظة، تمكنه من القضاء على الميكروب الغازي والتخلص منه قبل أن يتمكن من الجسد وتستفحل آثاره المرضية والسمية. وتتضح فعالية التطعيمات في مكافحة الأمراض المعدية من حقائق عدة، منها حقيقة أن أعداد من يصابون بفيروس شلل الأطفال حاليّاً قد وصلت إلى أقل مستوياتها في التاريخ البشري، حيث أصبحت الإصابات السنوية لا تزيد حاليّاً عن بضع مئات فقط حول العالم، بعد أن كان الفيروس في الماضي يتسبب سنويّاً في شلل أكثر من 350 ألف طفل في 125 دولة. وهذا النجاح الهائل الذي تم تحقيقه في الحرب الدائرة ضد هذا المرض، والفيروس المسبب له، هو نتيجة المجهود المنظم والتعاون الدولي في هذا المجال منذ عام 1988، بالاعتماد بشكل أساسي ورئيسي على التطعيمات. ومرض شلل الأطفال (Poliomyelitis) هو مرض فيروسي شديد العدوى، يصيب في الغالب الأطفال تحت سن الخامسة، وتحدث العدوى بالفيروس عن طريق الفم، وعند وصوله إلى الأمعاء يتوالد بكثرة وتتضاعف أعداده بشكل كبير، ويهاجم بعدها الجهاز العصبي، مما قد يؤدي إلى شلل المريض التام في غضون ساعات قليلة. وتظهر أعراض المرض الأولية على شكل حمى وصداع وقيْء، مع تصلب في عضلات الرقبة وآلام شديدة في الساقين. ومن بين كل 200 حالة إصابة، ينتهي المرض بشلل دائم، غالباً ما يكون في الساقين، ومن بين هؤلاء المرضى الذين يصيبهم المرض بالشلل، يلقى ما بين 5 في المئة إلى 10 في المئة منهم حتفهم بسبب شلل عضلات التنفس. ولا يوجد حتى الآن أي علاج فعال ضد فيروس شلل الأطفال، وإن كان التطعيم يمنح مناعة ضد المرض مدى الحياة. وعلى رغم أن فيروس شلل الأطفال لا زال متوطناً في الهند، وباكستان، وأفغانستان، ونيجيريا، إلا أنه أصبح مرضاً نادراً في معظم دول العالم، وغير موجود بتاتاً في كثير منها، إلى درجة أن الآمال أصبحت تراود كثيرين بإمكانية القضاء التام عليه، ليلحق بفيروس الجدري، وليصبح ثاني فيروس في التاريخ يصيب البشر يتم التخلص منه نهائيّاً. ويعود الفضل في ذلك، كما ذكرنا سابقاً، إلى الانتشار الواسع لاستخدام التطعيمات الطبية الواقية منذ منتصف الخمسينيات، التي أدت بدورها إلى انخفاض هائل في عدد الحالات، وخصوصاً في الدول الصناعية والغنية. وعلى خلفية هذا النجاح الأولي، عقد العالم العزم على القضاء التام على الفيروس من خلال تحالف دولي بقيادة منظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونيسيف، والعديد من الجهات الرسمية والمنظمات الخيرية العاملة في مجال الصحة العامة، وهي الجهود التي منحها العطاء الأخير من دولة الإمارات زخماً جديداً.