عندما تطورت مظاهرات الغضب التي حدثت عقب انتحار الشاب التونسي محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر الماضي إلى حراك أطاح ببن علي، رأى كثير من المراقبين أن أسباباً اجتماعية اقتصادية هي التي غيرت الأوضاع. واستند ذلك الرأي إلى أن البوعزيزي انتحر بسبب منعه من بيع الفاكهة ومصادرة العربة التي كان يستخدمها في هذا العمل الذي اضطر إليه هرباً من بطالة خانقة بعد أن أعياه الحصول على عمل يناسب مؤهله. غير أن تفسير انتحار البوعزيزي على هذا النحو كان امتداداً لمنهجية يسارية ذات أصول ماركسية تركز على الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للتغيرات. وأغفل هذا التفسير أن أعداداً هائلة من الشباب العاملين في "الاقتصاد الموازي" اصطدموا على مدى سنوات طويلة باللوائح الرسمية في تونس وبلاد أخرى ازداد فيها حجم هذا الاقتصاد وربما انتحر بعضهم في صمت حين ضاقت الحياة أمامهم. لكن جديد انتحار البوعزيزى أنه حدث بصورة مؤثرة أمام مقر محافظة سيدي بوزيد، وفي لحظة بلغ فيها تراكم عوامل الغضب المتنوعة مبلغاً لا سابق له. وساعد في ذلك شيوع قصة صفعه بواسطة شرطية في بلدية المحافظة. وهي قصة ثبت أخيراً أنها كانت من نسج الخيال. فقد حكم القضاء ببراءة الشرطية وأكد عدم صحة قصة الصفعة. ويعني ذلك أن العوامل الاجتماعية الاقتصادية لم تكن المحرك الوحيد للتغير في تونس. وظهر هذا بوضوح أكثر في الحالة المصرية التي بدأت بعد 11 يوماً على الإطاحة ببن علي، وفي الاحتجاجات المتنوعة في بلاد عربية أخرى. فلم تكن العوامل الاجتماعية الاقتصادية، من فقر وبطالة وتفاوت طبقي حاد، هي المحرك الوحيد أو الرئيسي لغضب شعوب عربية نزلت إلى الشارع كما لم تفعل من قبل. فلم تُحدث هذه العوامل القائمة منذ فترة غير قصيرة تغيراً إلا عندما اقترنت بما يمكن تسميته "الدوافع الثقافية" التي تعود إلى تغير في ثقافة المجتمع. فعندما يحدث تطور في ثقافة كتلة مؤثرة من المجتمع وتتغير نظرتها إلى طريقة الحياة أو تتبنى رؤية جديدة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الإدارة والجمهور وبين فئات المجتمع وشرائحه أيضاً... يزداد الميل إلى تغيير الواقع بما ينسجم مع هذا التطور. وحين يستعصي هذا التغيير وتُغلق أبواب الإصلاح المؤدي إليه، يزداد الاستياء ويتحول إلى غضب مكتوم يتراكم تحت السطح إلى أن يجد فرصة للظهور.. وهذا ما حدث على مدى سنوات طويلة، حيث انتشرت تحت سطح الجمود الذي خيم على بلاد عربية عديدة ثقافة مدنية حديثة تعلي من شأن حرية الإنسان وكرامته وتأبى الظلم والإذلال. وساهمت ثورة الاتصالات في تسريع انتشار هذه الثقافة في بلاد تعودت أجهزة الأمن والهيئات المرتبطة بها على إساءة معاملة الناس. وبدأ الرد على هذه الممارسات في فضاء "الإنترنت" قبل أن ينتقل إلى أرض الواقع في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. فقد نزل المحتجون إلى الشارع استجابة لدعوة عبر "الإنترنت" في هذه الحالات كلها. ولم يكن المبادرون بالدعوة إلى التظاهر والاحتجاج فقراء أو عاطلين يبحثون عن خبز أو عمل، لكنهم وضعوا الخبز والعدالة الاجتماعية ضمن مطالبهم سعياً إلى توسيع نطاق المشاركة في الاحتجاجات التي دعوا إليها. وعندما اختير يوم 25 يناير لتنظيم تظاهرات واسعة، كان هذا تعبيراً عن العامل الرئيسي وراء الاحتجاج في مصر. ففي مثل هذا اليوم من كل عام تحتفل الشرطة المصرية بعيدها. لذا كان في اختيار هذا اليوم رسالة واضحة تفيد بأن الكيل فاض بانتهاكات جهاز الأمن التي خلقت وجعاً شديداً في الوجدان العام. ومن أهم القواسم المشتركة بين البلاد التي اندلعت فيها احتجاجات حقيقية، وليست مصنوعة لأهداف طائفية أو مذهبية، أنها شهدت توسعاً في الطبقة الوسطى في مرحلة انتشرت فيها ثقافة الحرية والكرامة الإنسانية على الصعيد العالمي، بالتزامن مع استمرار احتكار السلطة وازدياد سطوة أجهزة الأمن التي صارت القوة الرئيسية. وقد أظهرت دراسة موثقة أصدرها "المعهد العربي للتخطيط" في العام الماضي توسعاً ملموساً في الطبقة الوسطى في البلاد التي شملتها هذه الدراسة، ومن بينها ثلاثة نشبت فيها الاحتجاجات هي مصر وتونس واليمن، بالإضافة لثلاثة بلدان أخرى، هي الأردن والجزائر والمغرب، شهدت احتجاجات محدودة، لكنها لم تتوسع لأن هذه البلدان الأخيرة شهدت إصلاحات متفاوتة في السنوات الأخيرة. وتعتبر الطبقة الوسطى أكثر حساسية للتغير الثقافي الذي يعلي من شأن حرية الإنسان وكرامته مقارنة بالطبقات الدنيا. ورغم أن معاناتها الاقتصادية والاجتماعية أقل من الطبقات التي تدنوها، فهي أكثر شعوراً بالظلم لأنها المصدر الأول لعائدات بلادها من الضرائب. لذلك أصبح الشعور بالظلم والإذلال أكثر إنتاجاً للغضب مقارنة بالمعاناة من الفقر. وهذا يفسر كيف أمكن تحويل مقتل الشاب خالد سعيد في مدينة الإسكندرية في مايو 2010 على أيدي رجال أمن اعتقلوه، إلى منطلق لحملة إدانة واسعة لجهاز الشرطة والنظام السياسي برمته. وجذبت صفحة "كلنا خالد سعيد" على "الفيسبوك" مئات الآلاف من المصريين الذين نزل بعضهم إلى الشارع في 25 يناير مصرّين على استرداد حقوقهم. ولم تلبث أعداد متزايدة من الناس أن انضمت إليهم خلال 18 يوماً حتى تنحي مبارك عن الرئاسة. وكان تراكم التعبير الإلكتروني عن الغضب مساعداً على سرعة انتقاله إلى الأرض حين أخذ شباب من الطبقة الوسطى، وليس من الفئات الدنيا، زمام المبادرة . ورغم أن ازدياد معدلات البطالة في هاتين الحالتين كان له أثر واضح في توسع نطاق الاحتجاجات، فقد أظهرت استطلاعات أُجريت في مصر أن معظم الشبان العاطلين نظروا إلى بطالتهم باعتبارها إهانة لهم في المقام الأول كونها تحط من شأنهم في عائلاتهم ومجتمعاتهم الصغيرة. والأرجح أن هذا هو أيضاً شعور الكثير من العاطلين الذين شاركوا في الاحتجاجات في بلاد أخرى، على نحو يطرح افتراضاً جديراً بالعناية خاصة دراسة الاحتجاجات العربية، وهو أن الإنسان بات يحتج لكرامته أكثر مما ينتفض بسبب فقره. وثمة افتراض آخر لا يقل جدارة هو أنه عندما يزداد التوسع في إهدار كرامة الإنسان، لا يعود من تحملوا الاستبداد طويلاً قادرين على الصبر، الأمر الذي يجعل الديمقراطية هدفاً أساسياً للتعيرات باعتبارها ضرورة لا بديل عنها لضمان حرية المرء وكرامته. ولعل دارسي العلوم الاجتماعية في الجامعات ومراكز الأبحاث العربية يضعون هذين الافتراضين على جدول أعمالهم سعياً لاختبارهما في دراسات ميدانية قد تفيد نتائجها في استشراف جانب مهم من جوانب مستقبل عالمنا وليس فقط منطقتنا العربية.