ليس هناك شك في أن العملية الأميركية التي دارت على أرض باكستان لتصفية بن لادن جسديّاً، تعد إعلاناً مدويّاً عن سقوط العقل الإرهابي! فقد ثبت يقيناً أن الإرهاب مهما كان نمطه وأيّاً كانت الجماعات التي تقوم به، حتى لو تمسحت بالدين الإسلامي زوراً وبهتاناً، ليس وسيلة إيجابية لتغيير المجتمعات، بل هو وسيلة تخريبية تؤدي إلى مصرع عشرات المدنيين الأبرياء، الذين يسقطون صرعى نتيجة لانفجارات عشوائية، تؤدي إلى خرق خطير للحق في الحياة وهو من أبرز حقوق الإنسان. والإرهاب الذي يتشح بأردية إسلامية زائفة، له جذور تاريخية في التربة المصرية والعربية. ولا نريد -لضيق المقام- أن نتتبع تاريخ الجماعات الإسلامية الإرهابية في مصر، بدءاً بالجهاز السري لـ"الإخوان المسلمين"، وصولاً إلى تنظيم سيد قطب الذي يعد المنظر الأكبر للعنف الإسلامي والإرهاب، بعدما صاغ نظرياته التكفيرية الشهيرة عن "جاهلية" المجتمع، والحق في الخروج على الحاكم في كتابه الشهير "معالم في الطريق". وقد توالت بعد ذلك الجماعات الإرهابية وأبرزها على الإطلاق "جماعة الجهاد" و"الجماعة الإسلامية". وقد استطاع النظام المصري من خلال المواجهة الأمنية الحاسمة القضاء على إرهاب هذه الجماعات، من خلال القبض على الإرهابيين الذين تورطوا في أحداث إرهابية، والزج بهم في السجون والمعتقلات. وأدى التطور بعد ذلك بهذه الجماعات الإرهابية ووفق دروب متعددة، إلى أن يراجع بعض قادتها آراءهم الدينية المزيفة التي كانت تحضهم على العنف والإرهاب، وأصدروا مجموعات متعددة من الكتب تتضمن النقد الذاتي لمسيراتهم الإرهابية. وقد أتيح لي أن أقوم بدراسة شاملة لهذه الكتب عنوانها "إشكالية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف"، لكي أكشف الآلية المحددة التي طبقها فقهاء التطرف لكي يلووا عنق الآيات، لتبرير قتل المسلمين واستحلال أموال غير المسلمين. غير أن تنظيم "القاعدة" الذي رأسه "بن لادن" بتاريخه المعروف، نقل الإرهاب الإسلامي من النطاق المحلي الموجه ضد الأنظمة السياسية العربية إلى النطاق العالمي، بعد أن صاغ نظرية الفسطاطين الشهيرة التي مبناها أن هناك فسطاطين لا ثالث لهما، وهما "فسطاط الكفر" ممثلاً في الغرب الصليبي الكافر، و"فسطاط الإيمان" ممثلاً في المجتمعات الإسلامية التي تحكم بالشريعة. وانطلق في طريقه لممارسة الإرهاب ضد الولايات المتحدة الذي بلغ ذراه في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهكذا يمكن القول إن قتل "بن لادن" أنهى مسيرة كاملة للعقل الإرهابي الذي تمسَّح بالإسلام، والإسلام منه براء. غير أن المشكلة الحقيقية هي أنه لا يمكن الفصل بين انتشار ظاهرة الإرهاب في العالم العربي والإسلامي وأزمة العقل العربي، إذ يمكن التمييز هنا بين نمطين رئيسيين، الأول هو العقل التقليدي، والثاني العقل العصري. إذ ما زال هناك خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو خطاب يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربي. وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية لهذا الخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف بحسب هوية صاحب الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها، بدون معرفة القوانين التي تحكمها. ومن سماته أيضاً إلقاء مسؤولية القصور والانحراف على القدر أو الضعف البشري أو على الأعداء. وفي ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع -في بعض صوره البارزة- إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغض النظر عن إمكانية التطبيق، أو بُعدها عن الواقع. وقد سجلت هذا التمييز بين "العقل التقليدي" و"العقل المعاصر" منذ أكثر من عقد من السنين، ومنذ ذلك التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة. فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب، وانتشرت في البلاد الإسلامية والعربية، على رغم اختلاف النظم السياسية، بالإضافة إلى أحداث سبتمبر 2001، التي مثلت نقلة كبيرة في تطور ظاهرة الإرهاب الدولي. وهكذا أصبحنا في مجال العلم الاجتماعي، المهتم بالعنف والإرهاب لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة، ليس أمام العقل التقليدي، ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه "العقل الإرهابي". وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتأسلمة (أي التي ترفع زوراً وبهتاناً أعلام الإسلام والدفاع عنه)، على وجه الخصوص، والتي يمكن أن يكون تنظيم "القاعدة" نموذجها الأخطر، ندرك أن "العقل التقليدي" هو الذي يمهد الطريق لنشأة "العقل الإرهابي" الذي يدفع صاحبه للعمل الإرهابي. وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساساً بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا فإن مفهوم "رؤية العالم"، الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي، هو مفتاح فهم الأسباب الحقيقية للإرهاب. وكما أشرنا سابقاً، لا يمكن الارتكان للمنهج الاختزالي الذي يحصر أسباب الإرهاب في الفقر أو القهر السياسي، وذلك لأن إرهابيين عديدين ينحدرون من أصول طبقية غنية كان من أبرزهم بن لادن نفسه، بالإضافة إلى أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول -هكذا ببساطة- إلى إرهابي. والتفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولى غسيل مخ الشباب على وجه التحديد، وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم مؤداه أنها النظرة للكون والمجتمع والإنسان، فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية "الحاكمية" التي تذهب إلى أن الحاكمية لله وليست للبشر، بالإضافة إلى تكفير المجتمع العربي والإسلامي، ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية، بالإضافة إلى الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفاراً وملحدين، وأنهم يشنون حرباً صليبية ضد دار الإسلام، مما يدعو إلى الجهاد ضدهم، هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة، والتي تمثل المقدمة الضرورية لتشكيل "العقل الإرهابي". وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية على أساس أنها نوع من "الجهاد" في سبيل الله، فإن هذا العقل التقليدي لا يمكن فهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو "الأصولية". ولا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، ونعني العودة إلى المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيداً عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط، والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كُتبت شرحاً للأصول، وإنما المعنى المقصود هنا هو الجمود العقائدي والتزمت الفكري. وقد كان المفكر العربي "علي أومليل" موفقاً حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة، والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة. وذلك على أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل، الأول ذهب إلى أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان. والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية التي أساسها الديمقراطية، وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية. ويقول "أومليل" في شرح هذا الاتجاه أنه "ما دامت التنمية -نظريّاً- هي طريق إلى الحداثة، وما دامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع، فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معاً"! ويضيف أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة، ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير بالزمان والتاريخ، أما فكر الأصوليين فهو فكر لا زماني ولا تاريخي، لأنه تفكير في نص مقدس تفكيراً خارج الزمان. والأصولي يرفض الحداثة لأنها تغريب بمعنيين: أولاً لأنها تغريب بالإسلام إذ يصبح غريباً بين أهله، وثانيّاً: لأنها اقتداء بالغرب. والإسلام بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد يرفض أي حوار بين الحضارات، بل إنه ينضم للأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو للصراع بين الحضارات. والإسلام، وفقاً لهذا الفكر الأصولي أيضاً، ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب، وإنما بالجهاد أيضاً، الذي يعني فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب، وهكذا تتبين الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي. ولو قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة، فسندرك أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب. غير أن قيام التحولات العربية وفي مقدمتها تحولات 25 يناير المصرية، كانت في حد ذاتها إعلاناً جهيراً عن سقوط العقل الإرهابي، و فشله في تغيير المجتمعات العربية، وعن صعود التحولات الشاملة باعتبارها الأسلوب الأمثل للتغيير الاجتماعي الجذري.