أشار التَّصويت على نواب رئيس الجمهورية (صباح الخميس 12 مِن الشَّهر الجاري) إلى أن مصالح الأشخاص والأحزاب طغت على مصلحة الوطن، فكل شيء يجري بالتَّراضي، في صفقات توزيع المناصب الغنائم، بعيداً عن الوطن والمواطنين. وهنا تتحول الانتخابات العامة والمحلية إلى سوق للبيع فيه مَن يشتري وفيه مَن يبيع، وكلُّ جماعة لجأت إلى مؤثراتها في النُّفوس، والاتجاه إلى المواطن لا عبر برنامج انتخابي بقدر ما يكون عبر تهديد بالآخر. لقد غدت الانتخابات مغنماً، وهي بهذه الحالة قد لا تختلف عن الانقلابات، وأحقية فلان بالسُّلطة، فالمعنى واحد وهو الصعود إليها، مثلما كان السَّابقون يقولون: أخذناها بالدم، صار الحاضرون يقولون بالتَّصويت! نعم هناك فرق كبير بين الوسيلتين، ذلك عندما تكون الانتخابات طريقاً إلى بناء الوطن وتحسين أحوال ساكنيه، ويتعهد النائب بتنفيذ برنامجه الانتخابي، لكن ما حصل أن الصِّلات تنقطع بين النائب ومنتخبيه حال إعلان النتائج، لتبدأ مرحلة أخرى وهي توزيع الغنائم. كنت في حفل استذكار مئوية عالم الفيزياء العِراقي عبدالجبار عبدالله (1911- 2011)، الذي أقامته الجمعية المندائية الثقافية بمدينة لوند السويدية، وهو المُختار (1959) مِن قِبل مجلس الوزراء العِراقي في عهد عبدالكريم قاسم (قُتل 1963) رئيساً لجامعة بغداد لعلمه وكفاءته الأكاديمية، وفكرت وأنا أتابع الحفل لو أن مثل هذا العالِم عاش اليوم هل سيُختار لعلمه وأكاديميته وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، أو رئيساً لجامعة مثلاً، وهو ابن طائفة عراقية أصيلة هي الصَّابئة المندائيين؟! قطعاً لا، والسبب أنه مِن جماعة لا حزب لها ولا ميليشيا، وبذلك يكون على الرَّغم مِن باعه العلِمي، باعتراف الجامعات الغربية، خارج المحاصصة. وكذلك الحال بالنسبة للمؤرخ المميز جواد علي (ت 1987)، فكتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" وأكاديميته لا يؤهلانه لتولي منصب علمي، فهو شيعي لكنه خارج الحلقة، فالمحاصصة التي أخذت تهدم العِراق حجرة حجرة مثلما نرى، تضيق شيئاً فشيئاً، وهل ستُقدم الأحزاب السُّنية أكاديمياً مثل إبراهيم السامرائي (ت 2001) لتولي منصب من حصتها الطائفية، طبعاً لا، وكذلك الحال بالنسبة للكُرد. فلا يكفي أن تكون شيعياً أو سُنياً أو كُردياً لتنال موقعك المناسب، إنما أن تكون مِن كذا قائمة، ومِن كذا حزب، ومِن كذا جماعة، حتى تصل إلى الولاء الشخصي. أُنجزت الانتخابات في مارس 2010، وها هو العراق يترنح أمنياً حتى يومنا هذا، بلا وزراء أمنيين، وأخذ المتهمون بالإرهاب يخرجون مِن قيودهم بسهولة، وفضحت جرائم الهرب، والسبب تجده في توزيع المناصب الأمنية والعسكرية على الولاءات، مثلها مثل المناصب العلمية والأكاديمية، وكلاهما تخريب في تخريب. فبفضل الوضع الأكاديمي والتعليمي الأسوأ في تاريخ العِراق المعاصر ستؤهل أجيال جاهلة، تزيد مِن أفواج الإرهابيين والفاسدين، وهما يشربان مِن معين واحد، وتؤسس لمجتمع ضعيف منهك، ووطن شأنه شأن بيت العنكبوت واهياً، أمسه أفضل مِن يومه، "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ" (العنكبوت 41). هناك عقيدة على ما يبدو لم يتمكن الساسة العراقيون مِن التنازل عنها، وهي أن السلطة غنيمة. عقيدة تمارس في مجالات خطيرة، فالعبرة هي أن تأخذ حصتك، لأن وجودك مؤقت، فمادمت فيها املأ سلتك من البستان، ولا يُكتفى بزاد السَّفر، مثلما يكتفي الجراد في مواسمه، وليت الفاسدين يحكمون بموسم مثل الجراد، ولعل ما أنشده مزارع مِن وادي حنيفة يُعبر عن الحال، وينتفع به مَن يريد التَّميز عن الجرادة التي اسمها منحوت مِن فعلها، تجرد الأرض جرداً. قال المزارع: "مرَّ الجرادُ على زرعي فقلت له.. الزم طريقك لا تُولع بإفساد.. فقال منهم خطيب فوق سنبلةٍ.. إنا على سفر لابُد مِن زادِ" (الجاحظ، البيان والتبيين). ذكر الجاحظ (ت 255 هـ) تلك الأبيات ضمن باب "أن يقول كلُّ إنسان على قدر خُلقه وطبعه"، وهو توصيف بليغ للذي مازالت على جبينه قطرة حياء، لكن نفوس الفاسدين لا يردعها اللوم الذاتي، وقد أمنت العقوبة والفضيحة في نظام المحاصصة، وهو نظام متشابك المصالح كتشابك أسلاك هواتف وكهرباء المدن العِراقية حيث يعصف الخراب. ما اختلف عراقيان أو تغاضبا على حق إلا وحضرت مفردة "الگوترة"، وهي كناية عن الفوضى وعدم التقيد بأصل مِن الأُصول، فالذي يغمط حقك تقول له: "هي گوترة"! والمفردة تركية الأصل، و"تعني البيع بالجملة الواحدة بالتَّخمين والتقدير والاتفاق دون أي اعتبار" (البازركان، الألفاظ الدخيلة في اللهجة العراقية). ما رأيناه في التصويت على نواب رئاسة الجمهورية هو الگوترة بعينها، بلا ميزان ولا معيار، فقد وضع المرشحون في سلة واحدة وأخذ النُّواب يساومون عليها، هذا أمام الملأ، أما الحقيقة فكان الأمر مقضياً بين الكتل وفق شريعة المحاصصة، وهي أقرب للغابة منها إلى السياسة أو إدارة الدول. لا أدري كيف تقبل السَّادة النُّواب، نواب الرئيس ونواب البرلمان، مثل هذه المهزلة، لتمرير نائب فشل فشلاً ذريعاً في مسؤوليته السَّابقة، وهو مِن الأشخاص المشكوك بشهادتهم العلمية، ويصعب اعتماده ممثلاً لأعلى سلطة بالعِراق، وخلفه قضايا لم تحسم بعد في المحاكم، لكن الزَّمن زمنه! هناك مَن يسخر مما نشكو منه وهو يسمع بإعفاء المزورين مِن المساءلة، بل شملتهم الدَّيمقراطية وخرجوا في تظاهرة طالبين تثبيتهم بمراكزهم. فالتزوير ما عاد تهمةً ولا عيباً ولا عجباً، بل العجب ألا تكون مزوراً! السؤال: هل كانت رئاسة الجمهورية، ومهامها المحدودة، تحتاج لثلاثة نواب! وإذا كان الأمر محاصصة، وتقولون المرحلة مرحلة توافق، فكان الأجدر أن يكون النائب الثالث تركمانياً أو آشورياً مثلاً كي يشعر هؤلاء بعدم تهميشهم، وفيهم مَن يصلح للمنصب، لكن حتى المحاصصة مقننة حزبياً، وقد نجح النائب الثالث بتنفيذ تهديده بقلب الطَّاولة، فالأمر غدا (گوترة)، وهي سمة الزمن العِراقي! ورحم الله أبو علي الآمدي (444هـ) لما أنشد حين اضطربت أحوال العِلم في زمانه: "فحق لأهل العِلم أن يتمثلوا.. ببيتٍ قديم شاع في كلِّ مجلس.. لقد هُزلت حتى بدا مِن هزالها.. كلاها وحتى سامها كلُّ مفلسِ" (الحموي، معجم الأدباء). هذا هو حال العِراق الذي ما كنا نرجو له الخروج مِن مهزلة القائد الضرورة ليدخل في مهزلة التصويت بالگوترة!