تروي لنا كتب السيرة والتاريخ واقعتين على التشكل الصحي للمجتمع أو الانحراف المرضي؛ أما الأولى فكانت موقف أحد الصحابة في معركة أحد حين قال وهو يفارق الحياة: لا عذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. أما الثاني فهو موقف عقيل بن أبي طالب إزاء مصادرة الحياة الراشدية على يد البيت الأموي: "إن صلاتي خلف علي أقوم لديني، وإن معاشي مع معاوية أقوم لحياتي". وهنا ينقل لنا التاريخ مأساة انفكاك الضمير عن الواقع. في الوقت الذي كان القرآن يعرض النموذج الذي يندمج فيه الضمير مع المثل الأعلى والحياة: "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". إن حوادث السيرة تروي أقصى ما يمكن أن تفعله التربية بالإنسان، والمجتمع يمكن أن يميز بين الصحة والمرض بموجب مؤشرين: إنتاج "النموذج الإنساني" و"الكمية الحرجة" من هذه الكتلة كما في أي تغير نوعي في أي وسط. فالقنبلة النووية لم تنفجر إلا بكتلة حرجة، كما أن تغير الماء النوعي يتم وفق الدرجة الحرجة، سواء في التجمد أو التبخر، وهذا ينطبق على التحولات في المجتمع عندنا تصل أحواله إلى الوضع الحرج بين سوء الأوضاع من جهة والوعي الجماهيري من طرف مقابل. ولا يتفطن لهذا أحد كما تغيرت الأوضاع في كل من رومانيا وتونس ومصر. وهناك ثلاثة مستويات يمكن أن يتشكل وفقها "الإنسان الاجتماعي"؛ ففي المستوى الأول يبرز إنسان مستلب الإرادة، وفي الثاني شخص محرر الإرادة، وفي المستوى الثالث نجد إنساناً إيجابي الإرادة. فأما الأول فهو كائن ممسوخ الآدمية، يفعل ما يوحى إليه في مجتمع متدني الفعالية يعيش حالة من الوثنية السياسية. وهو ما شبّهناه بشكل القلم أو البوق أو البندقية، فلا يرد القلم ما تخطه اليد من الموافقة بنعم. أو بوق يردد رجع الصوت بدون مناقشة. أو يقوم بالجريمة ميدانياً لأن الأوامر جاءت هكذا. إن إنسان ما بعد الموحدين مستعد لأن يهدم الكعبة لو أُمرَ بذلك. ولربما بكى وهو يفعلها. هذا النموذج الممسوخ يمثل الطبيعة في ظاهرة "القصور الذاتي"؛ فالسقوط محتم لكل الأشياء باتجاه الأسفل. أما الصعود فيحتاج إلى طاقة وهنا تفعل التربية فعلها فترتفع بالإنسان باتجاه المثل الأعلى. يقول بن نبي: وهنا لا نواجه تغيراً في النظام السياسي بل إن التغير يصيب الإنسان ذاته الذي فقد همته المحضرة، فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع".