عندما اقترحت في مقالتي الأخيرة منذ أسبوعين في هذا المكان، النظر إلى بعد مهمل للاحتجاجات الجارية في بعض الدول العربية، ومحاولة عمل كشف حساب إقليمي مؤقت حول هذه الظاهرة، أعترف أنني لم أكن أتوقع بالمرة أن الأمور ستتغير بمثل هذه السرعة، وخاصة على مستوى المنظمات الإقليمية العربية. فأكبر تحرك -وهو فعلاً مفاجأة- كان دعوة مجلس التعاون الخليجي لكل من الأردن والمغرب بغية الانضمام إلى مجلس التعاون. وبلا شك، فإن هذه المفاجأة تستحق مقالاً مستقلاً لتحليل أسباب الدعوة، ثم رد الفعل عليها، وتداعيات كل ذلك على النظام الإقليمي العربي على وجه العموم. وفي مواجهة هذا التحرك المفاجئ، لا تزال المنظمة الأم، أي جامعة الدول العربية، تحتفظ بـ"الثوابت" حسب لغتها الرسمية التقليدية، بل تعاني من الجمود كما يقول الواقع الإقليمي لهذه المنظمة ودورها على الميدان. نستطيع أن نقول إن غالبية الشعوب العربية اليوم، من سوريا إلى اليمن، تعاني مما يمكن أن يشبه الحرب الأهلية، وحتى إذا حُسم الوضع بعض الشيء في بلاد مثل تونس أو مصر، فإن طريق الاستقرار لا يزال على ما يبدو غير ممهد في دول عربية أخرى، حيث أصبحت أحوال المنطقة العربية بنداً مهيمناً على اجتماعات المنظمات الدولية، من الأمم المتحدة في نيويورك إلى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، إلى العديد من الاجتماعات الأخرى الثنائية أو متعددة الأطراف، هنا وهناك. ويتزايد هذا الحراك الإقليمي والدولي، بينما الجامعة العربية، "بيت العرب"، تتصرف وكأن ما يحدث من أمور وتطورات لا يعنيها في شيء. نتذكر أن الجامعة العربية -تحت ضغط بعض أعضائها وكذلك الأمم المتحدة- انضمت إلى قرار الحظر الجوي على ليبيا، والصادر عن مجلس الأمن الدولي، بهدف حماية المدنيين الليبيين، لكنها على ما يبدو شعرت فيما بعد بأنها تورطت في ذلك الموقف، فعبّرت عن كثير من التردد والتحفظ، ثم ظهر سلوكها باهتاً، حتى أن الكثيرين في المنطقة نسوا وجودها تماماً. وإزاء هذه الحالة غير الواضحة تماماً، حاولت استيضاح الأمر من خلال توجيه أسئلة إلى بعض زملائي المتخصصين، وحتى إلى بعض الموظفين في الجامعة العربية ذاتها ممن لي معهم صلات غير رسمية، لكن كل الإجابات المتحصل عليها تقريباً كانت إما عامة أو غير حاسمة، وكان غالبية أولئك الأشخاص في حيرة من أمرهم. وحين رجعت إلى الوثائق وقرارات المنظمة، تبيّن لي أن أقوى القرارات التي كانت تتم بالإجماع وأكثرها وضوحاً هي تلك المتعلقة بالاحتلال أيام الاستعمار الأوروبي للبلاد العربية، أو بالصراع العربي الإسرائيلي. وامتد جانب كبير من ذلك الوضوح الإجماعي إلى ليبيا ذاتها خلال النزاع الذي نشب بينها وبين الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تقوم طرابلس بتغيير سياستها في الملف النووي وتبرم اتفاقاً مع كل من واشنطن ولندن وباريس، حيث سلمت أسلحتها النووية ودفعت تعويضات مالية عن طائرتين، أميركية وفرنسية، تفجرت إحداهما في سماء اسكوتلندا والأخرى في سماء النيجر. بينما انقسمت الجامعة فيما يتعلق بالعراق والحصار عليه بعد غزوه للكويت، وقد ساعد على تعميق ذلك الانقسام بين أعضاء الجامعة غياب العراق عن معظم اجتماعاتها. وقد انقسمت الجامعة أيضاً فيما يتعلق بالحرب الأهلية اللبنانية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، خاصة مع وجود القوات السورية تحت غطاء قبول عربي وأميركي. وفي الدورة الـ74 غير العادية، المنعقدة في يناير عام 1981 بلغ عدد الدول المتحفظة على القرار رقم 4011 والخاص بالتجديد للقوات السورية، ثماني دول. صحيح أن هذا العدد انخفض فيما بعد، لكن الانقسام عاد أيضاً إلى قضية "إعادة إعمار لبنان" والتي ذهبت من لجنة إلى لجنة حتى تم نسيانها تماماً وما عاد أحد يذكرها. استمر التأرجح بين عدم الفاعلية والغياب الكامل فيما يتعلق بالحرب الأهلية في السودان، وبالطبع فقد تدهور وضع الدولة في الصومال إلى أن أصبحت رقم 1 على مر السنين في قائمة الدول الفاشلة، حسب مقياس مجلة "السياسة الخارجية" المعمول به دولياً الآن، وقد انضمت الآن إلى ترتيب العشر الأوائل في هذه القائمة كل من اليمن والعراق، وقد تنضم أيضاً ليبيا في أول إصدار قادم من المجلة. هل أصبحت هذه الأحداث، بل قلْ الأزمات، أكبر من "بيت العرب" بحيث لا يستطيع الاتساع لها؟ ألا يمكن لبيت العرب معالجة بعض المشاكل المهمة، لكن قد تكون أقل حساسية، مثل تكاليف الاحتجاجات الشعبية الحاصلة في مصر وتونس مثلاً؟ والكيفية المناسبة لتغلب الدول العربية على أزماتها؟ وماذا يفعل "بيت العرب" في مواجهة أزمات يزداد شرخها؟ هل يستمر "بيت العرب" في تجاهلها حتى يشعر العرب أنهم من دون "بيت"، فيلجؤون أخيراً إلى "بيوت" الآخرين؟