كتبتُ في الثامن والعشرين من الشهر الرابع لعام 2007، مقالة نشرتها صحيفة "الاتحاد"، وكانت بعنوان "وسحبوا السياسة وكرسوا الكرة". وها نحن الآن وقد انقضت أربع سنين، لنجد أنفسنا في لجّة تحولات أفضت في العالم العربي إلى واحد من الأحداث ربما كان الأهم والأكثر تأثيراً في ذلك الأخير (العالم) منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا. ولعله كذلك واحداً من أعظم الأحداث في تاريخ العالم في الفترة ذاتها. لقد خرج الشباب العرب من قوقعتهم، التي أرغموا على البقاء فيها من قِبل نُظم أمنية ظهرت وتأسست وسيطرت بفعل ركنين اثنين حاسمين. أما أولهما فقد تجسد في هيمنة قانون سياسي اقتصادي وثقافي قيمي إعلامي أطلقنا عليه مصطلح "الاستبداد الرباعي". وهذا يقوم على أربع، هي الاستفراد بالسلطة و بالثروة و بالإعلام، وأخيراً الاستفراد بالمرجعية. أما الركن الثاني فيتمثل -شيئاً فشيئاً وعلى نحو انفجاري- في تعاظم حالة راحت تقضي على الأخضر واليابس، هي حالة الفساد والإفساد في كل الحقول والمجالات. وقد قادت الحالةُ المذكورة النظمَ العربية المعنية إلى الخراب بواسطة نمط من الحكم سمّيناه "الدولة الأمنية"، التي رفعت شعارها التأسيسي على النحو التالي: يجب أن يُفسَد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع ملوثين ومُفسَدين تحت الطلب. وفي السياق سار هذا الخط الدقيق الحاسم إلى غاياته، حيث مارست قوانين الطوارئ والأحكام العرفية أدوارها يداً بيد مع حظر المجتمع السياسي وركائزه من أحزاب ديمقراطية ومؤسسات أخرى، فغابت حيوية المجتمع التاريخية، وبرزت نشاطات وفعاليات أخرى بدلاً من ذلك. ومع أن مجموعة من هذه النشاطات والفعاليات ليست، في ذاتها، أموراً مُستنكرة، إلا أن ممارستها بصيغ من الهوس والمبالغة وعلى حساب تكامل الحياة المجتمعية المتوازنة، جعلتها مطلوبة من الدولة الأمنية المعنية، تسوّقها وتكرّسها وتشجعها، نعني بذلك تحديداً "رياضة الكُرة". ويكفي أن نضيف إلى ذلك ظاهرات أخرى خطيرة، راحت تتحول إلى جزء من نسيج الحياة الاجتماعية بهدف تفكيكه، مثل الفقر والإفقار، والفساد اليومي، وإمكانية الحصول على المخدرات والهبوط المريع للفئات الوسطى...إلخ. إذن حتى ندرك المستوى المتهاوي للشباب في مدارسهم وبيوتهم، وفي أحلامهم في الهجرة من بلادهم ومدنهم، وكذلك في افتقادهم العمل والكرامة والمرجعية التي يلوذون بها. نقول، يكفي التذكير بذلك، حتى نضع يدنا على نقاط التصدع هذه في حياتهم، ونصل إلى السؤال التالي، الذي أخذوا يواجهونه: إلى أين في مجتمعات محظور عليك فيها أن "تُعوي"، كي تُسمع صوتك من أجل الحرية والكرامة والكفاية المادية؟ وأخيراً، إذا كانت المرجعيات القانونية والثروة ومسوِّقي الفساد والإفساد، فإن خياراً حاسماً هو وحده ما ينبغي أن يمتلكه الشباب، كي يدافعوا عن حقوقهم وكرامتهم، ذلك هو خيار الحرية. هكذا، كان قرار الحرية المشروط بالفعل السياسي والمدني والأخلاقي، فها هنا بدأ الكشف عن الأهمية القصوى للعودة إلى السياسة والمجتمع السياسي بوصفهما منطلق المشروع الجديد.