لا شك أن ذكرى نكبة فلسطين تحل بنا هذا العام في ظل إحساس مختلف بالأمل في المستقبل. كان المصدر الوحيد لعدم الإحباط في السابق أن الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل التي خرجت من رحمها قد أخفقت عبر ما يزيد عن قرن من الزمان في أن تحقق وجوداً مستقرّاً -ناهيك عن أن يكون مقبولاً أو طبيعيّاً- على جزء صغير من الأرض العربية يسكنه شعب قليل العدد. وسواء كان هذا الإخفاق راجعاً إلى مقاومة شعب فلسطين نفسه أو الرفض العربي لإسرائيل فإن النتيجة واحدة، وهي أن مبدأ حدود القوة قد انطبق بجلاء على الحالة الإسرائيلية كما انطبق من قبل على غيرها من الحالات. وقد راهن الفلسطينيون بداية على أمتهم العربية، وعززت حركة المد القومي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى هزيمة 1967 من هذا الرهان، ولكن الدول العربية التي هزمت في تلك الحرب -وعلى رأسها مصر- انكفأت على ذاتها في محاولة لإزالة آثار الهزيمة، وأصبح الحد الأقصى لطموحات الفلسطينيين يتمثل في تسوية تاريخية تعترف بـ"دولة إسرائيل" في حدود ما قبل عدوان 1967 في مقابل جلائها عن الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلتها في ذلك العدوان. ونتيجة لما سبق انتقل الرهان الفلسطيني إلى المقاومة الذاتية التي حققت إنجازات لاشك فيها، ولكنها في الوقت نفسه واجهت معضلات حقيقية في علاقتها بالدول العربية المحيطة بإسرائيل وبصفة خاصة الأردن ولبنان، فدخلت في معارك جانبية، وأخلت مواقعها في هاتين الدولتين على التوالي، وكانت تمثل المواقع الوحيدة المتاحة لها للانطلاق في عملياتها ضد إسرائيل. ولكن الشعب الفلسطيني استطاع كغيره من الشعوب التي خضعت للاستعمار أن يبدع أساليبه الخاصة به في المقاومة، وبدا هذا واضحاً من الانتفاضة الشعبية التي سميت بانتفاضة الحجارة، والتي بدأت في أواخر 1987 واستمرت حتى وقع الغزو العراقي للكويت في 1990. غير أن إسرائيل التي لم تستطع بالوسائل الأمنية أن تضع حدّاً لهذه الانتفاضة تمكنت للأسف من الالتفاف سياسيّاً عليها، وذلك من خلال التوصل مع منظمة التحرير الفلسطينية في 1993 إلى "اتفاق أوسلو". ويختلف الكثيرون حول تقييم هذا الاتفاق، وما إذا كان قد مثل خطوة حقيقية على بداية طريق استعادة الحقوق الفلسطينية، أم أنه كان آلية سياسية عبقرية لإجهاض هذه الإمكانية عن طريق تسوية وهمية للقضية الفلسطينية. وللأسف الشديد فإن هذا الاتفاق نص على تكوين "سلطة وطنية فلسطينية" في ظل استمرار الاحتلال، في تجربة غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرر الوطني، وعن طريق هذه السلطة والانخراط فيها تحول مقاومو "فتح" إلى شرطة محلية تضبط النظام داخل الأراضي المحتلة، ولهذا ازدهرت فصائل أخرى للمقاومة على رأسها "حماس" التي سرعان ما ابتلعت الطُّعم بدورها بدخولها انتخابات 2006 التشريعية التي حصلت فيها على أغلبية مريحة مكنتها من تشكيل حكومة السلطة الفلسطينية، وبقيت المقاومة شعاراً لحركة "حماس"، ولكن واقع الحال كان يشير إلى غلبة منطق التهدئة لديها حفاظاً على إنجازها السياسي، وهكذا حُرم النضال الفلسطيني من مقاومة فاعلة تدعم مسيرة استرداد الحقوق. وزاد الطين بلة الانقسام الذي وقع بين "فتح" و"حماس" الذي تحول في 2007 إلى صِدام مسلح ترتب عليه انفراد "حماس" بحكم غزة، فيما انحصرت سلطة الرئيس الفلسطيني المنتمي إلى "فتح" في الضفة الغربية، فبلغ التردي بالقضية الفلسطينية مبلغه. وهكذا بدا المشهد الفلسطيني كئيباً في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، ومن هنا تأتي أهمية حركات التغيير والاحتجاج التي انتشرت في أقطار عربية عديدة. ولا تكتسب هذه الحركات أهميتها الاستراتيجية من أن جهود المصالحة بين الفصيلين الرئيسيين في فلسطين سرعان ما وصلت إلى غايتها بعد نجاح التحولات المصرية، بعد أن كانت قد تعثرت طويلاً، فهذا الإنجاز يمثل عرضاً لظاهرة أعم في الوطن العربي، وهي أن حركات التغيير في تونس ومصر وامتدادها في بلدان أخرى قد أوجدت مناخاً شعبيّاً جديداً يعيد للقضية الفلسطينية بُعدها القومي الذي بدا وكأنه قد غاب إلى الأبد من خلال التراجع الواضح في التأييد العربي للنضال الفلسطيني. ولنأخذ الحالة المصرية مثالاً في هذا الصدد، خاصة أن مصر تجمع بين صفتين أولاهما نجاحها في تغيير نظام الحكم، والثانية أنها أقوى الدول العربية المحيطة بإسرائيل من حيث الإمكانات وإن كانت مكبلة بالسلام معها منذ 1979. ومن الأهمية بمكان أن السياسة الخارجية المصرية عامة، وتجاه إسرائيل خاصة، قد اختلفت بعد التحول عنها قبلها. فقد حافظت هذه السياسة على التزاماتها التعاقدية تجاه إسرائيل، ولكنها اتخذت من الخطوات في هذا الصدد ما يكفي لإقلاق دولة الاحتلال، مثل فتح معبر رفح باعتباره مشاركة مصرية في رفع الحصار عن غزة الذي اعتبرته السياسة الخارجية المصرية الجديدة جريمة حرب، ومثل بدء الحديث الجاد -بضغوط شعبية- عن مراجعة سياسات تصدير الغاز إلى إسرائيل، خاصة وقد كانت هناك ضغوط من ناشطين سياسيين قبل الثورة في هذا الاتجاه، واستطاع هؤلاء تحقيق إنجازات قضائية محددة لصالحهم، لكن المناخ السائد آنذاك لم يفض إلى أي تغيير في هذا الصدد. وكذلك نشطت الدبلوماسية المصرية مرة أخرى في مجال تحقيق المصالحة بين "حماس" و"فتح"، واستطاعت إنجازها في زمن قياسي بعد أن انتهى انحيازها لطرف دون آخر من ناحية، وتدليلها إسرائيل من ناحية أخرى. ومن الانعكاسات المهمة لهذه التوجهات المصرية الجديدة توقف كبار المسؤولين الإسرائيليين عن زيارة مصر بسبب أو بدون سبب لإعطاء الشرعية لما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، أو خلق الانطباع بوجود تواطؤ مصري مع إسرائيل في هذا الصدد. وقد يكون الأهم من ذلك كله أن نظام الحكم الجديد في مصر يكتسب شرعيته من الشعب وليس كسابقه من رضا الولايات المتحدة وإسرائيل عنه، ومن الواضح أن لقوى التحول موقفها السلبي من إسرائيل والعلاقات معها، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى أن الشعب المصري لم تكن له يد في صنع السلام مع إسرائيل، ومن المؤكد أن هذا كله يخلق صداعاً مزمناً في رأس إسرائيل التي لا يمكنها أن تخاطر بأي عمل عسكري ضد مصر، لأنها بذلك ستعيد مصر إلى معسكر الصراع معها، وهو عبء لا شك يقيد حركتها في مشروعاتها تجاه الجبهات الأخرى للصراع. والأخطر أن إسرائيل تعلم جيداً أن نجاح حركات التغيير في الوطن العربي سيكون هو البداية السليمة لبناء قوة عربية شاملة تصلح من الخلل الفادح في ميزان القوى بينها وبين العرب. ويعزز كل ما سبق أن إحياء ذكرى النكبة هذا العام قد جاء مصحوباً بحراك شعبي فلسطيني واضح، مدعوم بإسناد عربي شعبي غير مسبوق تمثل في مسيرات إلى الحدود مع إسرائيل، ولقد كتبت هذا المقال قبل اكتمال تفاصيل ما حدث يوم الأحد الماضي الموافق ذكرى النكبة، ولكن المعنى الرمزي شديد الوضوح. أيكون من حقنا القول بأننا للمرة الأولى منذ هزيمة 1967 نتذكر تلك النكبة الأليمة التي ألمت بالفلسطينيين والعرب في 1948 على خلفية من الأمل في استعادة الحقوق الفلسطينية شريطة أن يكون هذا الأمل مصحوباً برؤية سليمة وجهد فائق للتغلب على الصعاب الهائلة التي تعترض سبل تحقيقه؟