حتى الآن النصف الملآن من كأس المصالحة الفلسطينية يبعث على التفاؤل ويطرح السوداوية جانباً. نعم أثبت الفلسطينيون أنهم قادرون على تجاوز مرارات عميقة زرعها الانقسام اللئيم. صحيح أن العوامل الداخلية والخارجية التي دفعت "فتح" و"حماس" للمصالحة لعبت دوراً حاسماً بكل تأكيد، لكن توفرت الإرادة السياسية عند الطرفين وهذا شيء بالغ الأهمية، ومن حقنا في المستقبل أن نراهن عليه وأن نحاسب الطرفين بقسوة انطلاقاً منه: أي انطلاقاً من القدرة على امتلاك الإرادة السياسية وإحداث التغيير. بيد أن الطريق أمام ترجمة المصالحة ليس مفروشاً بالورود والعوائق التي تواجه الفلسطينيين في الشهور القادمة من النوع الثقيل. نعرف ونتوقع أن إسرائيل ستعمل كل ما بوسعها حتى تحبط المصالحة وما قد يترتب عليها، وتفرض مقاطعة على الحكومة المؤقتة القادمة. وستحظى بمساندة جزئية تتسع أو تضيق قادمة من الدوائر المتصهينة التي تؤثر في صنع القرار الدولي في واشنطن وأوروبا. كما ستواجه الحكومة المؤقتة تحديين كبيرين، الأول هو إنجاز مهمتها الأساسية خلال سنة وهي التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. والثاني تحدي تسيير الخدمات الأساسية خاصة مع احتمالات تفاقم ضائقة مالية بسبب التردد المتوقع لآلية الدعم من الدول المانحة. وإذا أردنا أن نتشبث بالتفاؤل فإن لنا أن نقول إن الحكومة المؤقتة ستنجز المهمتين، وسوف يتم تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية. أي أن الهدف "التقني والإداري" الذي سيُناط بالحكومة ستقوم به على أكمل وجه. والسؤال الذي يستتبع ذلك هو التالي: وماذا بعد الانتخابات؟ وإلى أين سيتجه المسار الفلسطيني في كل حالة من الحالات المتوقعة: فوز "فتح"، فوز "حماس" مرة ثانية، فوز لائحة ائتلافية، أو غيرها من السيناريوهات؟ أيّاً ما كانت نتيجة الانتخابات وفي حال بقيت الاستقطابات المواقفية وترجماتها السياسية والحزبية على ما هي عليه فإننا غالباً ما سنعود إلى المربع الأول: غياب استراتيجية جامعة وبقاء وتفاقم رؤى مشتتة للجهد الوطني. ما ينقص الوضع الفلسطيني هو وجود رؤية استراتيجية شاملة تحدد الأهداف المرحلية الممكن تحقيقها بوضوح، وتحدد الوسائل التي يمكن ويجب تبنيها لتحقيق تلك الأهداف. وفي السنوات العشرين الماضية، منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، ظلت إحدى السمات الأساسية للمسيرة الفلسطينية تتمثل في انشطار الرؤى الاستراتيجية حول الهدف النهائي (تحرير من البحر إلى النهر، دولة على حدود 1967، دولة ثنائية القومية.. الخ)، وهناك انشطار في الوسائل الاستراتيجية (المفاوضات أو المقاومة) من أجل تحقيق أي من تلك الأهداف غير المجمع عليها. وعلى ذلك فإن أحد التخوفات المقلقة يتمثل في الانهماك المتوقع للحكومة المؤقتة، ومعها "فتح" و"حماس" وبقية الأطراف الفلسطينية، في الترتيبات الإدارية، والغرق في صوغ الأسس التنظيمية التي تنظم تكتيكيّاً المرحلة القادمة، والوصول إلى تفاهمات بين الفصائل حول المحاصصة واللجان وآليات الانتخاب وسوى ذلك، مع إهمال البعد الاستراتيجي والرؤية السياسية الجماعية التي وحدها يمكن أن تضبط النظام السياسي الفلسطيني من أية انقسامات قادمة. ولنتأمل مثلاً المماحكة التي قد تتفاقم حول "جغرافية" رئيس الحكومة المؤقتة، وهل يكون من قطاع غزة أم من الضفة الغربية، ولنا أن نتوقع مماحكات لها أول وليس لها آخر من هذا الطراز، فيما القضية الحقيقية والملحة، وهي التوافق على برنامج سياسي واستراتيجي، تحظى بأقل اهتمام ممكن خلال السنة المقبلة. لتفادي مثل هذا السيناريو الذي قد يفرط في الفرصة الذهبية الحالية فإن من المطلوب من الأطراف الفلسطينية المتصالحة، ومن الحكومة المؤقتة القادمة، خلق آلية حوارية خلال العام المقبل يكون هدفها رسم استراتيجية فلسطينية توافقية يخضع لها الجميع ويشتغل الجميع على تحقيقها. ووظيفة الحكومة المؤقتة هي إدارة هذا الحوار، وهي وظيفة لا تقل أهمية على الإطلاق عن وظائفها الأخرى المفترضة: التحضير للانتخابات وإعمار قطاع غزة. وهذا يعني أن العمل الإداري والتقني والتنظيمي لا يكون على حساب العمل الاستراتيجي والتخطيطي بل هو مكمل له. ومن ناحية تطبيقية بحتة نحتاج في التشكيل القادم للحكومة المؤقتة وزارة أو دائرة للحوار الاستراتيجي الفلسطيني هدفها إطلاق حوار استراتيجي شامل بعيداً عن كل الانشغال الإداري واللوائحي وسوى ذلك مما يُخشى أن يستنزف كل الجهد الفلسطيني في السنة التحضيرية. والشيء المشجع هنا هو عدم الاحتياج للبداية من الصفر، بل البناء على جهود هي في غاية الأهمية تبلورت خلال الأعوام القليلة الماضية وتمحورت حول محاولة الوصول إلى تلك الاستراتيجية الفلسطينية المرجوة والوسائل الأكثر فعالية لإنجاز الحقوق الفلسطينية المشروعة والعادلة. وهناك النشاط والوثائق التي أصدرتها مجموعة التفكير الاستراتيجي، التي كانت خلاصة اجتماعات عديدة داخل وخارج فلسطين، وبرعاية ودعم من "مجموعة أكسفورد للأبحاث"، وهناك لقاءات عصف فكري واستراتيجي تشرف عليها "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت وأكثر من عاصمة، وهناك مؤتمرات وندوات تنظمها جامعة القدس والجمعية الفلسطينية للدراسات الدولية في القدس، ومؤسسة مواطن، وجامعة بير زيت، ومراكز فلسطينية وعربية بحثية عديدة، أضيفت إليها مجموعة تفكير استراتيجي تجتمع بدعم من جمعية فلندية، وهناك غير هذا كثير. وسيرفع البعض بطبيعة الحال أصابع الاتهام التقليدية بأن عمل بعض هذه المجموعات وراءه "أصابع غربية" وهي اتهامات لا معنى لها لأن المشرفين والمشاركين والمخططين في هذه اللقاءات ومن يصوغون خلاصاتها هم من النخبة الفلسطينية المنخرطة في الهم العام، وفي معظم هذه اللقاءات والمجموعات هناك رموز وقيادات من كل التنظيمات وعلى أعلى درجة ممكنة من المسؤولية. والمهم هنا ليس إضاعة الوقت في تفنيد الاتهامات ولا خوض معارك مع نواطير الحقيقة بل المهم هو العنب نفسه. والمهم هو وجود قناعة واسعة ومترسخة لدى قطاعات فاعلة ومهمة في الوسط الفلسطيني بضرورة تطوير استراتيجية شاملة تكون الضامن الحقيقي لعمل وطني مشترك. وهذا لا يعني بالضرورة ذوبان الجميع في بوتقة سياسية واحدة فهذا ليس مطلوباً ولا ممكنا أصلاً، ولكنه يحقق ما فشل فيه الفلسطينيون في العقدين الماضيين وهو أن تتكامل جهودهم عوض أن تتصادم وتكون إسرائيل هي المستفيد الوحيد، وتكون القضية الوطنية وعدالتها وشعبها الخاسر الأهم. وبخلاصة أخيرة فإن المطلوب من "فتح" و"حماس" والفصائل والمستقلين في الاجتماعات التي تمهد للحكومة المؤقتة إيلاء "وظيفة الحوار الاستراتيجي" أهمية قصوى وإناطة إدارتها بالحكومة المؤقتة، بحيث تعمل على تجميع الجهود الفكرية المتناثرة وتستفيد منها، لا أن تسيطر عليها وتضعها تحت جناحها فليس هذا هو المطلوب. المطلوب هو أن تعمل على تنسيق ما هو موجود من جهود وتعظم الاستفادة منها، وتكرس الرسالة الرمزية المهمة للجميع إزاء ما هو مُلح وأولوي حقاً، والأهم من ذلك أن تكون جسراً بين تلك الجهود والأفكار الخلاقة وبين صُناع القرار والمسيطرين على وجهة المسار الفلسطيني.