كتبنا في هذه الصفحة خلال الأشهر الماضية العديد من المقالات عن إيجابية ومحورية الدور المتنامي والقيادي لدول مجلس التعاون الخليجي على المستوى العربي. وفي نهاية العام الماضي تحديداً سطرت هنا مقالاً بعنوان: "الخليج قلب العرب النابض" ناقشت فيه الإنجازات الكبيرة التي نجحت دول مجلس التعاون الخليجي الست في تحقيقها خلال العقود القليلة الماضية، متتبعاً مسار التحول من دول هامش في أطراف العالم العربي إلى قلبه القوي النابض. وقد أتى نجاح قطر بجدارة كأول دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية تفوز بشرف استضافة أكبر حدث رياضي في العالم، وهو نهائيات كأس العالم لكرة القدم في عام 2022، ليؤكد عالمية دول الخليج العربية. كما سبق ذلك نجاح أبوظبي في أن تكون المقر الدائم لمؤسسة الطاقة المتجددة "إيرينا" لتكون بذلك أيضاً عن جدارة واستحقاق أول دولة عربية، بل أول دولة نامية تحقق مثل هذا الإنجاز على المسرح الدولي، وهذا يسجل لدولة الإمارات العربية المتحدة التي أصبحت قائدة في هذا المجال. كما أن فوز الكويت، للمرة العاشرة، ببطولة كأس الخليج التي أقيمت في اليمن، كان أيضاً محطة خليجية مهمة في تقدم وتميز الرياضة الخليجية في محيطها العربي. وهكذا نجحت دول المجلس خلال عقد من الزمن في التحول إلى القلب والصانع الحقيقي للأحداث والمبادرات، هذا دون إغفال السيطرة على الساحة العربية في مجال الجامعات والعلوم والمؤتمرات والرياضة والفن. وقد افتتحت فيها فروع لأعرق المستشفيات والجامعات ومراكز الدراسات العالمية. وسيطر الخليجيون أيضاً على الفضائيات العربية في مجالات الفنون وإعلام الأسرة، وكذا الفضائيات الإخبارية ووكالات الأخبار الأهم في العالم العربي مثل "الجزيرة" و"العربية" و"كونا" و"وام" و"واس" و"قنا" وغيرها. وأكثر من هذا تحولت دول الخليج إلى أسواق لاستقطاب العقول العربية وغير العربية المهاجرة والساعية للأمن الوظيفي والاستقرار، وتستضيف دول الخليج أكثر من 15 مليون عامل مهاجر وبقوة اقتصاد تتجاوز 1.4 تريليون دولار ما يجعلها الاقتصاد الثالث عشر على المستوى الدولي، مع توقع ارتفاع الناتج الإجمالي الكلي لدول المجلس ليتجاوز تريليونيْ دولار في عام 2020 وذلك سيجعل مجلس التعاون الخليجي ثامن أكبر اقتصاد في العالم. كما أنه لاعب مؤثر لا يمكن تجاهله في مجالات أمن الطاقة والاستثمارات والأسواق الاستهلاكية للمنتجات حول العالم. وسيضع ذلك كله شعوب دول المجلس الست على مستوى معيشي وخدماتي يقارن بالمستوى المعيشي والخدمي الموجود في دول العالم الأول. ومما لاشك فيه أيضاً أن دول المجلس الخليجي الست نجحت خلال العقود الماضية قي تحقيق إنجازات وقفزات تحسب لقياداتها، وفي تحسين مستوى المعيشة والارتقاء بمجتمعاتها إلى مصاف الدول المتقدمة. ولهذا تبدو دول المجلس الست محصنة إلى حد كبير ضد رياح التحولات وعدم الاستقرار التي تعصف بأكثر من دولة عربية. وفي الفترة الأخيرة وظفت واستثمرت دول مجلس التعاون الخليجي أوراق القوة هذه بشكل فعال لتوفير المزيد من الأمن والاستقرار في بيئتنا وفي خدمة الأمن والاستقرار في الوطن العربي. وهنا يمكن الإشارة إلى الدور القيادي لدول المجلس في حل الصراعات والخلافات العربية، والتوسط لإنقاذ أكثر من دولة عربية من مأزق التفسخ والفوضى مثل اليمن والسودان والصومال ولبنان، وكذلك قيادة النظام العربي بعدما تعرض للكثير من الهزات والتراجع حتى قبل تفجر التغيرات العربية التي جرفت الكثير من الثوابت عن دور الدول العربية المركزية والمحورية القوية، فإذا بتلك الدول تفقد مركز الثقل ويتراجع دورها وحضورها. ثم أتت التحولات العربية، وخاصة التي اجتاحت الدول الكبيرة مثل مصر وغيرها، لتوجد فراغاً استراتيجيّاً لم يملأه سوى العمل الجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي، التي بعد أن تحولت إلى المصنع والمستشفى والجامعة والمجمعات والمضمد والمنقذ للعرب أجمعين، زادت على ذلك لتصبح دول الخليج رجل المطافئ العربي. وقد رأينا ذلك في تجليات الدور الخليجي القيادي في الشأن الليبي حيث قادت دول مجلس التعاون الخليجي الدول العربية وجامعة الدول العربية في فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، وفي نزع الشرعية عن نظام القذافي، وحتى اليوم تبقى دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر الدولتين المشاركتين في فرض حظر طيران فوق ليبيا فيما دول الخليج الأخرى تقدم دعماً لوجستيّاً، ويعترف بعضها بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي متقدمة بذلك على جميع الدول العربية الأخرى. وفي الشأن اليمني تبقى المبادرة الخليجية، على رغم تعثرها وتصدعها، إلا أنها المخرج الوحيد للانتقال السلمي في اليمن في غياب أي مبادرات عربية أو دولية تخرجه من دائرة مخاوف حرب أهلية، أو تقسيم بتداعيات خطيرة. وحتى المبادرة الجريئة الأخيرة، عشية الذكرى الثلاثين لقيام أنجح تجمع إقليمي عربي -مجلس التعاون- بتوسيع قاعدة مجلس التعاون الخليجي، والترحيب بانضمام الأردن والمغرب إليه، تشكل هي أيضاً، مبادرة جريئة وتفكيراً استراتيجيّاً وتحوطاً للأخطار والمتغيرات الكبيرة التي تجتاح المنطقة. والآن ينصرف الاهتمام إلى النظر في الآلية المناسبة لعضوية الدولتين داخل المجلس، مع البدء بعضوية محدودة وغير مكتملة، باجتماعات مكثفة مع المسؤولين في البلدين. وعلى رغم أن من المبكر الحكم على الاستراتيجية الأمنية الجديدة لمجلس التعاون الخليجي بعد ثلاثين عاماً من قيامه، إلا أنه يمكن القول إنها تفتح مرحلة بتفكير استراتيجي مختلف عن الماضي لمواجهة التحديات والمتغيرات التي تشهدها منطقة الخليج العربي، وعلى مستوى النظام العربي ككل، خاصة مع استمرار غياب توازن قوى إقليمي، واستقواء دول إقليمية بمشاريعها وطموحاتها، ومع الاستعداد الأميركي للانسحاب العسكري من العراق نهاية العام الحالي، واستمرار المشكلة اليمنية، مما أقنع دول مجلس التعاون الخليجي بالتفكير الجدي بالحاجة إلى التغيير الجذري لاستراتيجياتها الأمنية، وتوسيع قاعدة المجلس لمواجهة كل هذه التغيرات. وهكذا أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي رافعة لشعوبها ومجتمعاتها، بل رافعة للعرب جميعاً. وعلى أشقائنا العرب تفهم وتقدير ودعم الدور الخليجي، لأنه ليس منافساً لأي منهم، بقدر ما هو سند ورصيد وداعم للعرب جميعاً، من الخليج إلى المحيط.