كنتُ بمصر عندما وقعت أحداث إمبابة الأُسبوع الماضي، حيث تجمع بضع مئات المسلمين الريفيين في مواجهة كنيسة مار مينا هناك مطالبين باسترداد "عبير"، وهي فتاةٌ قبطية كانت لها علاقةٌ بشابٍ مسلمٍ، وتطورتْ إلى زواج عُرفي. وبدأت المشكلة بهرب الفتاة من بيت أهل الشاب، ويشكّ العريس وأقاربه وأنصاره من "السلفيين" أنّها مختبئة في الكنيسة، وليس في بيت أهلها. ولأنّ شباناً أقباطاً تجمعوا من حول الكنيسة وبداخلها لحمايتها، منعوا العريس وأقاربه وأنصاره من دخولها تفتيشاً عن الفتاة، فقد حصل تضارُبٌ بالعصيّ والسكاكين، وتبادُلٌ لإطلاق النار، وانتهى الأمر بتدخُّل قوات الأمن والجيش، لكنْ بعد مقتل أربعة عشر شخصاً من الطرفين! والحادثُة المروِّعة هذه، ليست الأُولى التي تُنسبُ للسلفيين، بل سبق أن أحرقوا كنائس، واعتصموا أمام الكاتدرائية القبطية بالقاهرة، مطالبين بمعرفة مصير "كاميليا" التي تركت زوجَها القبطيَّ واعتنقت الإسلام، ثم استردتْها الكنيسةُ عن طريق البوليس المصري قبل سنوات. وقبل شهر أغارت مجموعاتٌ سلفيةٌُ على مزاراتٍ لأولياء مُقامة على مقربة من مساجد، فهدمتْها! وكان السلفيون قد استولوا على مساجد تديرها وزارة الأوقاف المصرية، بحجة أنهم هم الذين بنوها، وأشهرها جامع النور والذي صلَّى فيه مئاتٌ منهم صلاة الغائب على بن لادن أخيراً. بيد أنّ الفجيعة بابن لادن ما ظهرت لدى سلفيي مصر وحسْب؛ بل أيضاً لدى سلفيي لبنان، وهناك أخبارٌ عن صلواتٍ مُشابهةٍ في العراق والأردنّ وباكستان وأفغانستان. والواقع أنّ وجود الجماعات السلفية بهذه المواطن، وباليمن وسوريا والمغرب ونيجيريا، كان معروفاً من قبل. كما كان معروفاً أنها أظهرت ولاءً دائماً لابن لادن بحجة أنه سلفيٌّ مثلهم، وأنه الظلم والعدوان. إنما الجديد هو ما تكشّف عنه الواقعُ المصري بعد الثورة. فهناك حوالي المليون سلفي ينتظمون في ثلاث جماعات أهمُّها "الدعوة السلفية"، وقد كانوا على ولاءٍ شديدٍ لنظام مبارك باعتبار اعتقادهم بطاعة وليّ الأمر(!)، وربما كان لقياداتهم تعاوُنٌ مع الأجهزة الأمنية. والواضح أنهم وسط اشتهار نفوذ "الإخوان" في الزمن الثوري، أرادوا أن يُجرِّبوا "الحرية الجديدة"، لكي يجدوا أحداً يخطب وُدَّهُمْ. وربما فكَّروا لأول مرةٍ بالشأن العامّ، وإمكان التأثير فيه، إذ المعروف أنهم لا يملكون نظريةً سياسيةً، وهم- خارج السعودية- لا يعارضون الأنظمة إنْ تركتْهم وشأنَهم يمارسون طهوريتهم وتدقيقاتهم في العقيدة والعبادات. على أنّ السلفية الامتثالية هذه، داخَلَ وعْيَها الاختلال منذ ظهر تمردٌ فيها عشية حرب الخليج الثانية. وقد تكونت "القاعدة" نتيجة التلاقي والتحالُف بين بن لادن (السلفي)، وتنظيم "الجهاد" المصري بزعامة الظواهري. ومنذ ذلك الحين، التحق بعضُ السلفيين العرب بـ"القاعدة" من أجل الجهاد؛ بينما ظلّت الغالبيةُ ساكنةً وميَّزت نفسَها تحت اسم "السلفية العالمية"، ومن هؤلاء سلفيو مصر الذين يتحركون الآن لحماية العقيدة، ليس في مواجهة الأجانب والغرباء؛ بل وفي مُواجهة المسيحيين والعلمانيين والقبوريين بالداخل! ويذهبُ الكاهن القبطي لكنيسة مار مينا بإمباية، إلى أنّ اضطرابات إمبابة ما كان سببها عبير ولا كاميليا، بل ضابطُ الأمن بالمنطقة، والذي كان يمارس عبر "البلطجية" سطوةً في العهد السابق، مُستخدِماً السلفيين، وقد عاد لاستخدمهم لإزعاج العهد الجديد. والطريف أنّ النظامَ السوريَّ أيضاً يتهم السلفيين بإثارة الاضطراب، ومحاولة إنشاء إماراتٍ في مدينة بانياس. والمعروف أنّ أجهزةَ الأمن السورية سبق أن ضمّت تحت أجنحتها أُلوفاً من الشبان ذوي العقيدة السلفية، والذين جاؤوا إليها بقصْد الجهاد في العراق أثر الغزو الأميركي له. ولا شكّ أنه ظهرت بجوار معسكرات هؤلاء بيئاتٌ سوريةٌ وأُردنيةٌ ولبنانية، وكلُّها بمعرفة النظام. وعندما تعذّر الإرسالُ إلى العراق بعد المُهادنة الأميركية السورية عام 2007، انصرفت السلطات لبيع بعض هؤلاء لبلدانهم الأصلية، كما أرسلت بعضاً منهم إلى لبنان لإشاعة الاضطراب فيه عبر تنظيم "فتح الإسلام". ولكي ينتظم السياق الجديد، يمكن القول إنّ السلفية منتشرةٌ في أوساطٍ متدينةٍ من شباب الريف والمُدُن ذات المحيط الريفي الكثيف. وهؤلاء يبحثون عن دورٍ خارج الجهاديين مستفيدين من أجواء الحريات. وبسبب أساليبهم المثيرة، فإنهم يتركون آثاراً سلبيةً في المشهد، وإن لم يتمكنوا من تلطيخه أو التأثير فيه بالفعل. ففي مصر، أفادوا في طلعاتهم الغريبة والعنيفة السلطات العسكرية الجديدة، فاتخذت لأول مرةٍ قراراتٍ صارمة، وأرسلت مئاتٍ منهم إلى الاعتقال والمحاكمة. وفي الأردنّ صدرت أحكامٌ بالسجن على أكثر من مائة سلفي تكفيري. وفي سوريا فإنّ أحداً لا يصدق أنّ السلفيين يتآمرون دون علم السلطات لإقامة إماراتٍ إسلامية! وهناك مئاتٌ من السلفيين الجهاديين وغير الجهاديين بالسجون في لبنان. أمّا الطرف الإسلاميُّ الآخَرُ الأكثر عدداً وعُدَّةً وتنظيماً، فهو "الإخوانُ المسلمون". وما شارك هؤلاء في الثورة المصرية في أيامها الأُولى، لكنهم الآن طرفٌ رئيسيٌ في الإفادة من سقوط النظام السابق. ولـ"الإخوان" علاقاتٌ طيبةٌ بالمجلس العسكري الحاكم، وبأوساط القضاء والجيش، وحتّى بالأميركيين والأوروبيين. وقد تصدّروا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وأعلنوا عن حزبٍ سياسيٍّ، وعن قولهم بالدولة المدنية. وزار مرشدهم العام شيخ الأزهر، وأعلن عن تمثيل الأزهر لإسلام مصر الوسطي المعتدل. بيد أنّ معارضتهم القديمة للنظام السابق ما تزال تؤثّرُ في رؤيتهم الخارجية. ولذا فبينما دعموا "الإخوان" الأردنيين الذين يعارضون النظام هناك، ودعموا الثورات باليمن وليبيا، تردَّدوا في قول شيء عن الاضطراب السوري، وأَصدروا بياناً في الأسبوعين الأولين بدا بمثابة دعمٍ للنظام بحجة أنه نظام مقاومةٍ ومُمانعة. وهم يدعمون علاقاتٍ وثيقة مع إيران، متجاهلين الصراع الناشب بين إيران ومجلس التعاوُن والتدخلات الإيرانية. وتخلَّى "الإخوان" الأردنيون عن نُظَرائهم في سوريا، لكنّ موقفهم قد يتعدل بعد خروج قيادة "حماس" من دمشق، والمُصالحة مع "فتح". وهكذا فموقف أردوغان من قمع النظام السوري للاحتجاجات، كان أفضَلَ من مواقف "الإخوان" بمصر والأردن وتونس. والمعروف أنّ "الإخوان" المصريين هم الحركةُ الأُمّ لكل "إخوان" العالم العربي، وهم قادة التنظيم الدولي لأولئك "الإخوان". ولذا فموقعهم في قلب التطورات سوف يؤثّر على كلّ الحركات "الإخوانية". ورغم علاقتهم بـ"حزب العدالة والتنمية" الإسلامي الحاكم بتركيا، ما وجدوا أنفسهم حتى الآن أمام الخيار الحاسم بين إيران وتركيا. ولعل سبب ذلك أنّ هؤلاء أقاموا علاقاتٍ بإيران ثم بـ"حزب الله" طوال العقدين الماضيين، وتلقْوا دعماً من الإيرانيين، إضافةً لعلاقة "حماس" (وهي في الأصل من "الإخوان") التحالفية بإيران. ومن المبكِّر بالطبع الحكم على المواقف النهائية لـ"الإخوان" بالداخل العربي، ومواقفهم من الجوار الإسلامي، ومن الغرب. ثم إنّ "الإخوان" في سوريا لم يظهروا بشكلٍ قويٍّ في شهري الاحتجاج. ولا ندري هل كان ذلك عن خطّة، أم لأنهم ما عادوا يملكون تنظيماً بالداخل. إنما في كل الأحوال، يظهر "الإخوان" بوصفهم شركاء متوسّطي الحجم في كل حركات التغيير العربية. وقد دخلوا في تنافُساتٍ، خفيّةٍ وظاهرةٍ، مع الشبان المدنيين، ومع السلفيين، في شتّى الساحات. وقوتهم في مصر وسوريا في المدن، لكنهم في البلاد العربية الأُخرى ظاهرون في الأرياف والبلدات على حواشي المدن. وبسبب اختلاف المزاج بين الصعيد والدلتا بمصر، فقد يستطيعون الحصول على تأييد من الفئات المحافظة بمصر العليا إلى جانب الصوفية والسلفيين. وتظاهرت مئاتٌ قليلةٌ من "حزب التحرير" بشمال لبنان ضد النظام السوري. و"حزبُ التحرير" قديمٌ في الأردن وسوريا ولبنان، وهو الآن قويٌّ في آسيا الوسطى وبعض المهاجر الأوروبية وأوستراليا، وهو يركّز على استعادة الخلافة باعتبارها الشرعية الوحيدة. ويقول بالشورى ويعتبرها مناقضةً للديمقراطية، لأنّ السلطة لله وشريعته وليست للشعب. وهو لا يقول بالعنف، لأنه ضد الفتنة وسفك الدم، لكنه لا يعارض انقلاباً غير دموي يُوصِلُ لإقامة الخلافة! ولا نعرف لهذا الحزب فرعاً أو نشاطاً بمصر، وما شارك في الثورات المدنية العربية، لأنها حدثت وتحدث لأهدافٍ لا علاقة لها بالخلافة، وتسعى لتجديد الشرعية من خلال الديمقراطية ذات المنشأ الغربي.