واشنطن هي المدينة الوحيدة في الولايات المتحدة حيث أسعار السكن في ارتفاع؛ وهو أمر قد يساعد على تفسير لماذا تبدو الطبقة السياسية بعيدة كل هذا البعد عن مشاكل البلاد ومتاعبها. صحيح أن البلاد بكاملها احتفلت بمقتل بن لادن؛ ولكن بخصوص الاقتصاد يمكن القول إن واشنطن عالم فريد من نوعه. فبعد عامين على البداية الرسمية لـ"استعادة الاقتصاد لعافيته"، مازالت أميركا تعاني من أزمة وظائف عميقة ومؤلمة؛ ذلك أن واحداً من بين ستة أميركيين في سن العمل عاطل أو يعمل بدوام جزئي فقط. وطلبة الكليات، المثقلون بمستويات قياسية من الديون يواجهون بعد تخرجهم أسوأ سوق عمل منذ "الركود الكبير". والبطالة طويلة المدى باتت اليوم في مستويات غير مسبوقة. وبالنظر إلى معدلات نمو الوظائف الحالية، فيمكن القول إننا لن نعود إلى مستويات التوظيف التي كانت سائدة قبل الركود حتى عام 2016. وعلاوة على ذلك، فإن الوظائف التي يتم خلقها – في قطاع الخدمات بالأساس - تميل إلى أن تكون رواتبها أقل مقارنة مع الوظائف التي ضاعت. لقد حقق "الجمهوريون" فوزاً كبيراً في انتخابات 2010؛ وبات رئيس مجلس النواب جون بونر (الجمهوري) يصيح بأعلى صوته من شرق البلاد إلى غربها "أين هي الوظائف؟". ولكن منذ وصوله إلى واشنطن، ركز مجلس النواب الذي تهيمن عليه حركة "الشاي" على كل شيء ما عدا الوظائف، حيث قام بإلغاء إصلاحات الرعاية الصحية، وشل الإصلاح المالي، وهاجم وكالة حماية البيئة، وأوقف تمويل بعض البرامج الاجتماعية، وسن تخفيضات كبيرة في الإنفاق الداخلي. ولعل السبب هو أن الحزب يفتقر إلى الأفكار بشأن سبل خلق الوظائف. فالأسبوع الماضي، اختار "جمهوريو" مجلس الشيوخ السيناتور الجديد "روب بورتمان" لتقديم مخطط يروم خلق الوظائف يتألف من سبع نقاط. ولكن "بورتمان"، مدير مكتب التدبير والميزانية في عهد جورج دبليو بوش، يمثل اختياراً مثيراً للاستغراب، على اعتبار أنه ساهم في الإدارة نفسها التي تسببت في حالات عجز قياسي، ونمو في الوظائف يعادل الصفر، وتراجع المداخيل بالتوازي مع دفع الاقتصاد إلى التهلكة. وقد تبين أن ذلك لم يكن وليد الصدفة، على اعتبار أن جزءاً كبيراً من الأجندة "الجمهورية" الجديدة هي جزء من أجندة بوش القديمة. والحجة مازالت هي نفسها: أن الطريق إلى التعافي من "الركود الكبير" يكمن في العودة إلى السياسات التي قادتنا إليه – مزيد من التخفيضات الضريبية لصالح الشركات، مزيد من التحرير الاقتصادي، إلخ. وهكذا، سيضيف أولئك الذين جلبوا لنا الكارثة تخفيضات عميقة وفورية في الإنفاق، مثل "إصلاح الاستحقاق". وبعد ذلك، سيُدخلون المواضيع الراهنة التي تستأثر باهتمام المحافظين - إلغاء إصلاح الرعاية الصحية، ووقف النشاط النقابي، ومنع وكالة حماية البيئة من تقنين الغازات المسببة للاحتباس الحراري، ودعم الطاقة النووية، ومواصلة التنقيب عن النفط. غير أنه من الصعب أخذ أي من هذه المواضيع على محمل الجد، وذلك لأن التخفيضات الضريبية من شأنها تعزيز الأموال التي تكدسها الشركات؛ ولأن التخفيضات في الإنفاق من شأنها زيادة تسريح الموظفين الحكوميين. ثم إن الدفع في اتجاه التحرير الاقتصادي بعد عامين على تسبب مبالغات وتجاوزات "وول ستريت" في تفجير الاقتصاد ينم عن الوقاحة، وليس المنطق. كما أن اتفاقات التجارة الحرة الثلاث لبوش مع بنما وكولومبيا وكوريا الجنوبية لن تُحدث فرقاً قابلاً للقياس بخصوص الوظائف في هذا الجانب أو ذاك. والواقع أنه حتى بورتمان لم يكن يبدي اهتماماً كبيراً على ما يبدو؛ حيث قام باستعراض المخطط أمام وحدة صناعية بولاية "أوهايو" تستفيد من دعم مخطط تنشيط الاقتصاد وإعانات الطاقة البديلة، التي يبدو أن "الجمهوريين" عاقدون العزم على إنهائها. وفي اليوم التالي، كشف "ديمقراطيو" مجلس النواب النقاب عن مخططهم الأكثر طموحاً، "اصنعه في أميركا". مخطط يرى أن البلاد لا يمكنها أن تستمر في ترحيل الوظائف إلى الخارج بموازاة مع اقتراض ملياري دولار يومياً من الخارج من أجل دفع ثمن ما نستورده. والمخطط لا يخلو من ترهات سياسية (ومن ذلك مثلاً مشروع قانون برالي لضمان أن تصنع كل الأعلام الأميركية في أميركا)، ولكنه يقوم على استراتيجية جادة من أجل إعادة إنعاش وتنشيط البلاد. استراتيجية تستحق اهتماماً ونقاشاً أكبر بكثير مما نراه حالياً لأنها تكلف الرئيس بوضع استراتيجية صناعية للبلاد. كما تنص على تأسيس بنك للبنية التحتية والاستثمار في إعادة بناء طرق أميركا وجسورها العتيقة والبالية. وفي هذا الإطار، تُقترح جملة من الحوافز من أجل تزعم الثورة الصناعية الخضراء التي ستجتاح العالم. كما ينص المخطط على تشريع ما تتطلبه سياسات "اشتر المنتجات الأميركية" من أجل المساعدة على خلق أسواق في الداخل بالتوازي مع وضع آلية لتحدي التلاعب بالعملة الصينية. غير أن حتى هذا المخطط يتجاهل الأخطار الحالية للبطالة الجماعية – لأنه لا يدعو إلى مساعدة فيدرالية للولايات والمدن من أجل تلافي تسريح ضباط الشرطة والمعلمين، ولا يوفر وظائف عامة للشباب غير القادرين على إيجاد عمل في الظروف الحالية. ومثلما أشار إلي ذلك "عيزرا كلاين" من صحيفة "واشنطن بوست"، فإنه يمثل وسيلة لقياس مدى بعد واشنطن عن البلاد كون المخططين تم الكشف عنهما من قبل الهيئتين اللتين لديهما أصغر سلطة للقيام بأي شيء – الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، والأقلية "الجمهورية" في مجلس الشيوخ. أما أولئك الذين يمتلكون السلطة - البيت الأبيض، والأغلبية "الجمهورية" في مجلس النواب، والأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ – فيلوذون بالصمت بشأن معضلة الوظائف، ويبدون غافلين عن الخسائر الإنسانية التي تتسبب فيها البطالة الجماعية. كاترينا فاندن هوفل رئيسة تحرير أسبوعية "ذا نايشن" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"