أعيد بث الخطاب الذي أعلن فيه أوباما عن مقتل بن لادن عدة مرات عبر العالم، وشكل ذلك من دون شك لحظة تاريخية؛ ولكن وبينما تتكشف تفاصيل كيفية تعقب بن لادن وقتله من قبل فريق من قوات النخبة الأميركية، وإنهاء واحدة من أطول عمليات التعقب والملاحقة في التاريخ، فإنه ما من شك في أن ثمة جوانب أخرى من القصة لا نعلمها، حيث مازال ثمة عدد من الأسئلة من دون أجوبة، وبخاصة حول كيف تم التخطيط للعملية برمتها وتنفيذها. ولئن كانت بعض التفاصيل ستظهر ربما، فإن ثمة عناصر أخرى من القصة لن يتم الكشف عنها أبداً ربما، سواء من قبل أميركا أو باكستان. ثمة علامة استفهام كبيرة حول مدى مشاركة باكستان في ما يسمى العملية الأميركية السرية. فالأميركيون حرصوا حرصاً شديداً على القول مراراً وتكراراً إن العملية التي استهدفت بن لادن كانت من تخطيط وتنفيذ أميركي بالكامل. وقد تم التأكيد على هذا بقوة في عدد من المناسبات منذ إعلان أوباما نبأ مقتل بن لادن على التلفزيون؛ غير أن ثمة شكوكاً قوية بشأن قدرة الأميركيين على تنفيذ عملية من هذا النوع بمفردهم على التراب الباكستاني من دون أي مساعدة من الجيش أو السلطات الأمنية الباكستانية؛ وحتى إذا كان ذلك يعني أن كل ما على الجيش الباكستاني أن يفعله هو غض الطرف أثناء تنفيذ العملية الأميركية على الأراضي الباكستانية. في زمننا وعصرنا الحاليين اللذين باتت فيهما التكنولوجيا الحديثة جد متطورة، وكل بلدان العالم تقريباً لديها أفضل ما في المعدات الدفاعية، وما يستطيع رصد أصغر التحركات على الأرض أو البحر أو الجو، فإنه من المستبعد تقريباً الاعتقاد بأن الجيش الباكستاني فشل في رصد أربع طائرات هيلكوبتر أميركية دخلت إلى قلب باكستان قادمة إليها من قاعدة باجرام الجوية في أفغانستان. ومن الصعب جداً تصديق أن الجيش الباكستاني لم يكن قادراً على تعبئة قواته أو ضباطه على الميدان إلى أن أنهت قوات النخبة الأميركية العملية كلها وطارت بأمان بجثة بن لادن تحت جنح الظلام. وباعتراف واشنطن نفسها، فقد استغرقت عملية قتل بن لادن 40 دقيقة بعد أن حطت طائرات الهيلوكبتر الأميركية في فناء المنزل. فلماذا لم تستطع القوات الجوية الباكستانية، التي تتوفر على أحدث نسخة من رادارات "أواكس" الأميركية المتطورة، رصد تلك الآليات الطائرة، وهي تدخل مجالها الجوي وتتوغل عميقاً داخل ترابها مقتربة من عاصمة البلاد إسلام آباد من دون أن يتم رصدها؟ وحتى إذا صدقنا التقارير التي تقول بأن طائرات الهيلوكبتر المستعملة كانت مروحيات "شبح لا يرصدها الرادار"، إذا طارت على ارتفاع منخفض، فلماذا لم ينبه ضجيجها الذي يصم الآذان قادة الأكاديمية العسكرية المجاورة؟ ثم إن الأميركيين حطموا إحدى مروحياهم "الشبح" التي أصيبت بعطل تقني خلال العملية؛ فلماذا لم تسمع الشرطة المحلية مثلا دوي الانفجار على الرغم من أن كل السكان في المنطقة المجاورة استيقظوا من النوم على صوت الانفجار وأخذ العديد منهم يتناقل الخبر مباشرة عبر الهواتف النقالة.. أغلب الظن أن الأميركيين ربما توصلوا بإذن من السلطات الباكستانية لدخول المجال الجوي الباكستاني مع اتفاق ضمني بأن يبقوا بعيداً عن مكان العملية. ويبدو أن الولايات المتحدة قد بلغت الباكستانيين أنها سترسل فريقاً من أجل تنفيذ عملية ما، ولكنها لم تحدد الهدف خشية أن يقوم أحد عناصر وكالة الاستخبارات الباكستانية "آي إس آي"، التي ماتزال متعاطفة مع بعض عناصر "القاعدة"، بإخبار بن لادن. ومما لاشك فيك أن باكستان تشعر حالياً بضغط كبير بعد العثور على بن لادن على أراضيها، إذ توجه إليها انتقادات وأسئلة كثيرة حول كيف عاش أول إرهابي مطلوب للعدالة في العالم لفترة خمس سنوات غير بعيد كثيراً عن إسلام آباد وعلى مقربة من الأكاديمية العسكرية الباكستانية المرموقة. والسؤال الكبير الآخر الذي يطرح هو لماذا لم تعلم وكالة "آي إس آي"، وكالة الاستخبارات الباكستانية الأولى، والجيش الباكستاني أن أسامة بن لادن كان مختبئاً في مكان واضح؟ الأرجح أن بلدان العالم بشكل عام، والأميركيين بشكل خاص، سيمارسون الضغط على باكستان حتى تجيب على هذه الأسئلة. باكستان تلوذ بالصمت ولا تجيب على هذه التساؤلات؛ ربما لأنها تعتقد أن مواجهة مثل هذه الانتقادات أفضل من تمجيد دورها المتمثل في السماح لطائرات هيلوكبتر أميركية تقل على متنها قوات العمليات الخاصة بدخول مجالها الجوي من أجل تنفيذ عملية أحادية الجانب، وبالتالي مواجهة الانتحاريين المحليين. ولذلك، فإذا أشارت أميركا، ولو تلميحاً، إلى أن باكستان كانت تعلم بشأن دخولها إلى مجالها الجوي، فإن باكستان ستكون في ورطة أكبر. وعليه، فإن كلا من الأميركيين والباكستانيين سيستمرون في التزام الصمت حول هذا الموضوع خوفاً من أنه في حال انتشر خبر تواطؤ القوات أو الاستخبارات الباكستانية مع الأميركيين، فإنه سيكون ثمة حمام دم على شوارع لاهور وكراتشي وبيشاور. والواقع أنه منذ الآن هناك تقارير من باكستان تشير إلى مطالبات متزايدة من قبل متشددين باكستانيين بأن يتم تحويل المكان الذي كان يختبئ فيه بن لادن إلى مزار. هذه بنية تحتية إرهابية قوية تدعى "طالبان باكستان" إنهم أنصار لـ"القاعدة" ومتعاطفون معها، ينفذون هجمات انتحارية في الشوارع المكتظة بالناس بين الحين والآخر، ولا يوفرون حتى المصلين الأبرياء داخل المساجد. وإضافة إلى ذلك، فإن المشاعر المناوئة للأميركيين في الداخل مرتفعة جداً في باكستان. وبالتالي، فإنه كان سيكون من الصعب أكثر بكثير أن تشرح السلطات الباكستانية أسباب سماحها بعملية من هذا النوع للأميركيين من دون معرفة تفاصيل الهدف. إن العالم لن ينسى بسهولة أن بن لادن وُجد في باكستان وغير بعيد عن الأكاديمية العسكرية الباكستانية. لقد رحل بن لادن ولكن زعماء آخرين لـ"القاعدة" مازالوا موجودين. وقد يكون فصل واحد من (جهود) محاربة الإرهاب قد انتهى، ولكن مما لا شك فيه أن ثمة العديد من الفصول الأخرى التي لن تتكشف تفاصيلها بعد. ويمكن القول إن السلطات الاستخباراتية الباكستانية ستتعرض لضغوط قوية لكي توضح طبيعة ومدى ما يقال عن مشاركة ضباطها مع "القاعدة" وأتباعها.