في ذكرى النكبة، اعترفت إسرائيل رسمياً بوجه من وجوه السياسة العنصرية التي انتهجتها طوال سني احتلالها للأراضي الفلسطينية لإفراغها من سكانها، ولإسقاط حق البقاء عليها والعودة إليها. لقد أعلمت القيادة العسكرية في الضفة الغربية مركز حقوق الفرد "هموكيد" بأن إسرائيل سحبت بين عامي 1967 و 1993 هويات حوالي 140 ألف فلسطيني من الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولا يشمل هذا الرقم أعداد الفلسطينيين الذين سحبت هوياتهم من أبناء الضفة والقطاع الذين غادروا عبر معبر رفح الحدودي أو مطار اللد. كما لا يشمل العدد أعداد الفلسطينيين الذين غادروا طرداً عبر الحدود مع الأردن ولبنان. كيف تمت العملية؟ صحيفة "هآرتس" كشفت أن نظاماً سرياً لسحب الهويات في الضفة والقطاع اعتمد طوال فترة الاحتلال وحتى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. ويقوم هذا النظام على أساس منع كل من يعيش خارج الأراضي الفلسطينية لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة من العودة إليها وبالتالي يفقد حقه في الإقامة فيها. وقد وصل عدد الهويات التي تم سحبها إلى 140 ألفاً. وهذه جريمة منظمة ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين لأن عدداً منهم ترك أرضه للعمل في الخارج واستقر في أمكنة معينة، وعدداً آخر ترك للدراسة، والكل أمضى أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة خارج أرضه، فمنعوه من العودة إليها وسحبوا منه هويته. والهدف بالتأكيد هو فرض السيطرة على الأرض التي هي "لشعب الله المختار"، ولا حق فيها وعليها للفلسطينيين. ومن المؤكد أن الذين استهدفوا بهذه الجريمة زاد عددهم عن المئة وأربعين ألفاً ليصل إلى مئات الألوف اليوم. والهدف الإسرائيلي الدائم هو احتلال كل الأراضي، بناء المستوطنات عليها، إسقاط أي حق للفلسطينيين فيها، ومواجهة المد الديموغرافي الفلسطيني الذي يعتبرونه القنبلة الموقوتة في داخل المجتمع الإسرائيلي. ونجحت إسرائيل في جانب من هذه السياسة، لأن مئات الألوف من الفلسطينيين لم يعودوا إلى أرضهم، لكنها لم تنجح نجاحاً كاملاً إذ أن عدد الفلسطينيين الموجودين في الداخل، لا يزال يؤرقها وتعتبره تهديداً لها. ولذلك استكملت هذه الخطة السرية بخطة علنية مكشوفة منذ أشهر، يوم أعلن المسؤولون الإسرائيليون عن سن قوانين وتشريعات تكرس يهودية الدولة، وتشترط الولاء للدولة اليهودية مقابل إعطاء الهوية. وتسقط حق بقاء الفلسطينيين، لتضيف هذا الإسقاط إلى إسقاط حق العودة لمن هم في الخارج، لأن إسرائيل لا تقبل بعودة أي من الفلسطينيين، وهذا موضوع تعتبره خارج التفاوض في أي مرحلة من المراحل! وجوه النكبة الإسرائيلية متعددة، وهذا واحد منها. وفصول النكبة متعددة نراها كل يوم، واحتمالات النكبة تتجدد. لكن الظلم لن يدوم، ولا يمكن لهذه العنصرية أن تعيش إلى ما لا نهاية، خصوصاً وأن إرادة الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال والتصدي له، لا تزال قوية. ولو كانت إدارتهم للصراع لا تساعد على تحقيق الكثير من الأهداف، لا سيما في ظل غياب مرجعية واحدة ومشروع واحد وحد أدنى من التضامن الفلسطيني، الذي هو أساس هذه المواجهة. من هنا يأتي الأمل بالمصالحة الأخيرة، وبضرورة تعزيزها وترجمتها في رسم البرنامج الواحد وتحديد آلياته، لا سيما وإن إسرائيل تستفيد من النكبات العربية التي تعيشها. نعم، فرح كثيرون لثورات عربية، سميتها شخصياً فورات ، بسبب غياب الرأي والمناهج والبرامج والقيادة. وحققت هذه الفورات نتائج سريعة مذهلة في إسقاط حكّام، لكنها لم تحقق أهدافاً أساسية مهمة على مستوى التغيير حتى الآن، بل نعيش ارتدادات لها خطيرة جداً وخصوصاً فيما نراه في مصر من اقتتال طائفي خطير بين الأقباط والمسلمين. وما تعيشه ليبيا واليمن وما يستهدف سوريا باستقرارها وأمنها ومصيرها. حتمية التغيير لا بد منها. ولكن متى، وكيف وبأي كلفة؟ المشهد الآن، إسرائيل تحتفل بذكرى النكبة وهي ترى الواقع الفلسطيني صعباً والواقع العربي مأزوماً. العرب يسقطون قتلى في شوارع مدنهم الذين يموتون سواء من صفوف القوات المسلحة أو المواطنين في هذه الدولة أو تلك، هم عرب. مواطنون فقراء. وطنيون. الاقتصادات التي تدمر ستعيق عملية التنمية والتطوير. الإمكانات والطاقات المادية والنفطية ستكون مرهونة لسنوات بمواردها الأساسية وأسعارها لأن الغرب الذين يستنجد به الآن، والحاضر الوحيد القادر على التأثير في ظل الغياب العربي والفراغ العربي هو الذي سيستفيد من ذلك وسنبقى لسنوات أسرى أحقادنا ومشاكلنا وأخطر ما فيها أنها تأخذ اليوم البعد الطائفي والمذهبي المدمّر لكل أسس الوحدات الوطنية أو الإسلامية أو العربية. مرة جديدة أقول، المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية فرصة جديدة ليمنع الفلسطينيون إسرائيل من استغلال كل شيء، لإسقاط هويتهم وحقوقهم ومصادرة قرارهم ومستقبلهم فلا بد للغيمة أن تنجلي وللأوضاع العربية أن تستقر على واقع ما بعد تحرك المياه الراكدة، فالمهم أن تبقى القضية حية والذاكرة حية والإرادة حية قوية والإدارة جيدة متماسكة واثقة الخطى.