إذا كان النظام السابق هو المتهم في تفجير كنيسة القديسين وغيرها من حوادث العنف الطائفي، لتبرير استمرار قانون الطوارئ بدعوى المحافظة على الاستقرار والأمن وحماية الوحدة الوطنية، فلماذا تستمر هذه الحوادث بعد ثورة يناير وقد أظهرت جذور الوحدة الوطنية المتأصلة في قلوب الناس وفي وجدان الشعب المصري؟ لقد توحد الجميع في ميدان التحرير باسم الوطن، لا فرق بين مسلم وقبطي، بين ليبرالي واشتراكي، بين وطني وقومي، بين ناصري وماركسي. الأقباط يحرسون المسلمين أثناء صلاة الجمعة، والمسلمون يحمون الأقباط أثناء قداس الأحد خشية أي اعتداء قبل سقوط النظام. فما الذي حدث حتى تنفجر الحوادث الأخيرة في إمبابة ويكون ضحيتها عشرات القتلى ومئات المصابين؟ هل يكفي تعليل ذلك بأيدٍ خارجية تريد تفتيت البلاد كما حدث في العراق من قبل أو بأيدٍ داخلية، فلول النظام السابق لإجهاض الثورة بثورة مضادة؟ صحيح أن الدين متجذر في مصر. وقد يكون الشعب المصري أكثر شعوب العالم تديناً منذ المصريين القدماء وحتى الأجيال المعاصرة. توالت عليها ديانات التوحيد منذ إخناتون حتى الإسلام، لا فرق بين يهودية ومسيحية وإسلام. إله واحد حتى وإن تعددت تصوراته أو طرق الوصول إليه. وكلها ترتكز على مبدأي التوحيد والعدل. التوحيد في السماء والعدل في الأرض. التوحيد بلا عدل يكون فارغاً من مضمونه. والعدل دون توحيد قد يقع في النسبية. الإيمان الواحد تضاف إليه "شكاوى الفلاح الفصيح". الإله في الأعالي وعلى الأرض السلام. والأديان كلها التي توالت على مصر تعبر عن الرغبة في الخلود، والحياة الأبدية، واستمرار الحياة من الدنيا إلى الآخرة. وكانت مهمة التحنيط في البداية، عند المصريين القدماء، المحافظة على سلامة الجسد كي تعود الروح إليه يوم البعث. ثم أصبح حشر الأجساد في النهاية لا يحتاج إلى حفظ الأبدان التي تبعث وهي رميم. وكان طريق الوصول إلى الخلود هو المناجاة أو الصلاة أو الابتهال أو الدعاء أو العبادة كما يفعل الزهاد. لذلك كان التصوف وكانت الطرق الصوفية جزءاً من التدين. وحب الوطن أيضاً متجذر في مصر. يرتبط المصري بأرضه ولا يهاجر وطالما غنى ألم الفراق، "مسافر، مسافر" عن الأحبة والوطن، وعبر عن شوق العودة "بالأحضان". ارتبط بالأرض والزرع والنيل والشمس إلى درجة تأليه النيل والشمس، الماء والحرارة، عند القدماء. كما ارتبط بتراث الأسلاف وزيارة المقابر. ودافع عن الأوطان ضد الغزاة منذ رمسيس وصلاح الدين وحتى حرب أكتوبر. فلا دين بلا وطن، ولا وطن بلا دين. لا سماء بدون أرض، ولا أرض بدون سماء. الدين بلا وطن كهنوت ورهبانية وكنائس ومعابد. والوطن بلا دين مصالح فئوية وصراع طبقي، وتدافع ومغالبة، وتسلط وظلم، وحرب وعدوان. وليس الدين فقط فكراً وتصوراً وثقافة ونظاماً، عبادات ومعاملات، بل هو أيضاً ممارسات في الحياة اليومية. لا فرق في الدين الشعبي بين يهودية ومسيحية وإسلام. والتدين الشعبي أحياناً لقضاء الحاجات، شفاء المرضى، وفك المعسر، وجلب الرزق، وحمل العاقر، والنصرة على الأعداء. والدين دين الجيرة والمحبة، حب الجار "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وليس من الأمة من لا يأمن جاره بوائقه. جارك ثم جارك ثم جارك بعد أمك ثم أمك ثم أمك. لذلك تستحيل الطائفية في مصر لأنها تقوقع على الهوية الدينية الخاصة دون التوحيد، وأخذ الدين في إحدى مراحل تطوره وليس في مجموعه. تنكر التوحيد في السماء، وتلغيه! وتنكر التوحيد على الأرض، والمحبة والسلام والإخوة بين الناس. كما تستحيل العلمانية الغربية، فصل الدين عن الحياة العامة واعتبار الدين مجرد سماء بلا أرض، بُعد رأسي دون بُعد أفقي، علاقة الإنسان بربه دون علاقة الإنسان بالإنسان. "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي الصين، في الكونفشيوسية، الدين هو علاقة الإنسان بنفسه، الضمير، وبجاره. حب الأوطان جزء من الإيمان، "حب الوطن من الإيمان". والحفاظ على الحياة هو المقصد الأول من مقاصد الشريعة. والنفس واحدة لا يهودية ولا مسيحية ولا إسلامية. ولقد قام الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمام جنازة تحمل نعشاً. فلما قيل له: إنه يهودي، قال: "أوليست نفساً؟". ومن واجبات الأمة حماية دور العبادة للجميع. فقد نظف عمر وهو في طريقه إلى القدس كنيساً غمرته الرمال. وعيّن له حارساً من بيت المال. وصلى خارج الكنيس احتراماً له. والعهدة العمرية مشهورة للحفاظ على دور عبادة المسيحيين وصلبانهم. ومع ذلك، المباراة في بناء دور العبادة، الكنائس والمساجد والمعابد في مجتمع نامٍ تساعد على الفرقة. فالصلاة في أي مكان "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". والصلاة في القلب لا تحتاج إلى مكان. ما يحتاجه الشعب هو بناء المدارس والمستشفيات والأندية الرياضية. في المدارس يتعلم الجميع، مسلمين وأقباطاً جنباً إلى جنب. وفي المستشفيات يتعالج الجميع، لا فرق بين مستشفى إسلامي ومستشفى قبطي. وفي النادي الرياضي يلعب كل أطفال الشوارع الذين لا يعرفون الفرق بين المسلمين والمسيحيين. وقد يكون الانتماء إلى النادي الرياضي أقوى من الانتماء إلى المسجد أو الكنيسة. والإسكان الشعبي لجميع المشردين بلا مأوى لا فرق بين مشرد مسلم ومشرد قبطي. وفي المصانع فرص للعمل لجميع العاطلين دون تفرقة بين عاطل مسلم وعاطل مسيحي. فقد وحّدت البطالة بينهما. ورفع صور الصليب أو المسيح أو العذراء، ورفع صور الهلال أو المسجد أو يافطات "الله أكبر"، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، سماء بلا أرض، وهويات دينية دون هوية وطنية. إنما صور العشوائيات والمشردين والمرضى وأطفال الشوارع هي التي تعبر عن جموع المواطنين. لا تـُحرق مدرسة أو مستشفى أو نادٍ رياضي. ولا يُدمر إسكان شعبي أو مصنع أو حديقة. لا تدمر المنافع العامة. ولا يقتل مواطن مواطناً يشاركه في البلوى ويؤاخيه في الفقر والبطالة. فالكل في الهم سواء. والشرطة والجيش والمحاكم العسكرية والإعدام تصحيح خطأ بخطأ. ومجموع الخطأين لا يكوّن صواباً. والتجمهر والتجمع والتظاهر والنزول إلى الشوارع لنيل الحقوق في الحرية والعدل، والكرامة والمواطنة يؤدي إلى القتل والحرق والهدم والتدمير. والحب يبني ولا يهدم. يوحّد ولا يفرّق. يتجاوز الديانات والقوميات، الأعراق والأجناس. الحب قوة موحدة. والمصلحة العامة هي مصدر التشريع. والدخول في جدل نظري حول الدولة الدينية والدولة المدنية، حول الشريعة مصدراً للتشريع قد يفرّق ولا يجمّع، يثير النفوس ولا يؤلفها. إن حدوث هذه التوترات بين المسلمين والأقباط وتصدرها للإعلام الخارجي لا يخدم إلا الكيان الصهيوني وتعطيه شرعية القول بالدولة اليهودية التي تحمي اليهود في منطقة تحتدم فيها الصراعات الدينية وتقع فيها الحوادث الطائفية. وقد كانت هذه الحوادث باستمرار ذريعة لتدخل القوى الكبرى لحماية الأقليات، حجة الاستعمار القديمة. فهل نعود على بدء، أم نحافظ على روح يناير والثورة الوطنية؟