اشتهر المنظِّر الفرنسي "برتراند بادي" بدراساته الأكاديمية الرصينة في مجال العلاقات الدولية، التي يستند فيها الى تقاليد منهجية راسخة في فن التحليل السياسي وحس اجتماعي رفيع، هو ما يعطي كتاباته عادة خيالاً سوسيولوجيّاً نفاذاً وعمقاً معرفيّاً لا تخطئه الملاحظة. وبعد كتبه المشهورة التي أصبحت من المراجع الكلاسيكية في مجالاتها مثل "الدولة المستورَدة" و"ضعف القوة: محاولة حول عدم اليقين والآمال في العلاقات الدولية"، و"الدولتين"، وعشرات غيرها من الكتب، ها هو يعيد الكرة في كتابه الجديد الذي صدر مطلع هذا الشهر وعنوانه: "دبلوماسية التواطؤ: الانحرافات الأوليغاركية للنظام الدولي"، ليجدد الغوص في عمق موضوع الاهتمام الحاكم لمنجزه النظري العام، المتعلق في غالبه بمرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي يفضل هو تسميتها بـ"مرحلة ما بعد الثنائية القطبية"، حيث يحاول رسم ملامح المشهد الدولي الراهن، لتفكيك دلالات كثير من وثوقياته النظرية والمفهومية. وفي هذا الكتاب يتساءل المؤلف ابتداءً: في أي عالم نعيش فعلاً منذ سقوط جدار برلين؟ هل هو عالم أحادي القطبية حقاً وصدقاً كما يزعم كثيرون؟ أم أنه عالم متعدد الأقطاب والقوى في الواقع؟ ليجيب دون تردد: لا هذا ولا ذاك! غير أن هذا النظام الدولي "عديم الاسم"، في رأيه، لا يفتقر أيضاً إلى خيط ناظم لتوجهاته وتوازناته، ذلك أنه على رغم تغير العقليات والتقاليد السياسية التي عرفها النظام الدولي طيلة فترة المئتي عام الماضية، إلا أنه لم يتجاوز بأي شكل تلك الفكرة المعششة في أذهان قادة الدول الكبرى، على مر التاريخ، والتي مؤداها أن إدارة النظام الدولي شأن خطير، على نحو لا يمكن معه أن يترك لأي كان. ولذا ظل التقليد السائد هو أنه ينبغي أن يكون ثمة ما يشبه النادي غير المعلن، والمقتصر على أقل عدد ممكن من القوى الدولية الكبيرة، هو وحده من يحق له قيادة النظام الدولي، تحت دعاوى العمل لتحقيق تطلعات ومصالح الإنسانية جمعاء. ويرى "برتراند بادي" أننا يمكن أن نرى اليوم في المشهد الدولي صوراً متعددة من هذا النادي، أو "مجلس إدارة العالم" هذا، المقتصر على عدد محدود من القوى الدولية. ففي المجال الاقتصادي على سبيل المثال لا الحصر يمكن اعتبار مجموعة "الثماني" أو حتى مجموعة "العشرين" تجسيداً لهذه الفكرة الوثوقية الراسخة في تقاليد السياسة الدولية، والتي يزعم فيها الأقوياء الحق في احتكار العمل لتحقيق الصالح الدولي العام، سواء في ذلك لو تصرفوا بقبضات حديدية أم بقفازات حريرية. وهنا يضع "بادي" إصبعه على ما يعتبره هو -وكثير من منظري العلاقات الدولية غيره- بيت الداء في العلاقات الدولية الراهنة، ألا وهو هذا الالتباس المحيط بدلالة مقولة المجتمع الدولي، حيث تمثله فيه الظاهر كل أمم العالم ومؤسساته ومنظماته الدولية الجماعية التي تدفع بها إلى الواجهة مقولات العولمة وعالم الاتصال والانفتاح والشرعية الدولية، من جهة، في حين تتحكم فيه في الواقع مجموعة قوى دولية محدودة، لا يكاد عددها يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، هي تلك "الأولغارشية" (الأقلية) من الدول المتحكمة في رسم ملامح المشهد السياسي الدولي، من جهة أخرى. ويتتبع المؤلف على امتداد صفحات كتابه الـ274 جذور وتجليات نادي الكبار VIP المسير للسياسة الدولية، ابتداء مما عرف بـ"الحلف المقدس" سنة 1815 وصولاً إلى وجاهة مجموعة "الثماني" G8 الراهنة، مبرزاً ما يعتبره جوانب مظلمة في دبلوماسية توافق الكبار هذه، التي تقوم على نوع من التواطؤ الضمني، بل الطقسي، بينهم على أن يتغاضى كل واحد منهم، عن إرادة وقبول ضمني، عندما يتعلق الأمر بأخطاء الآخر. غير أن هذا التوافق، الضمني أو المعلن، ليس بالضرورة دائماً، فهو ضرورةً يدور مع مصالح الدول الوطنية حيث تدور، ولذا فهو يراوح بين التعاون والتنافس، حيناً بحين. وكما يمكن أن نتوقع فإن أعضاء نادي الكبار، أو مجلس إدارة العالم، يتعاونون وتتحد مواقفهم كلما أحسوا بوجود عنصر دخيل من خارج النادي يريد التطفل على شؤون تسيير المشهد الدولي. أما التنافس فيكون سيد الموقف كلما وضعت على المحك المصالح الوطنية الخاصة بكل دولة، على حدة، داخل نادي الكبار نفسه. ويمضي "برتراند بادي" في تحليله مؤكداً أن دبلوماسية التواطؤ والاستحواذ هذه ليست تقليعة عولمية أو تقليداً جديداً، وإنما هي حالة قديمة متجددة، كطائر "الفينيق" الذي ينبعث من الرماد باستمرار. غير أن الشعور بها كقاعدة حاكمة للمشهد الدولي لم يكن أبداً أكثر قوة وحضوراً مما هو عليه خلال فترة العشرين سنة الأخيرة. وفي الأخير يصل الكاتب إلى اعتبار أن "دبلوماسية التواطؤ" تحمل، مع ذلك، في طياتها بذور تناقضاتها الذاتية وتحدياتها الماثلة. ولا تستطيع القفز على المفارقة الكامنة في وجود استحواذ من قبل عدد محدود من الدول على إدارة الشأن العالمي في واقع دولي عنوانه العولمة الجارفة والشراكة الإنسانية في كل شيء. كما لا تستطيع الصمود أمام ضغوط شعوب يزداد إحساسها بأهمية الشراكة والدمقرطة في تسيير الشأن الدولي. وأخيراً يقول الكاتب، إذا كانت الإنسانية واحدة وغير قابلة للتجزئة، فلماذا يكون تقرير مسارها ومصيرها حكراً على نادٍ "أوليغاركي" لأقلية من الدول، بدل أن يكون مسؤولية إنسانية جماعية؟ سؤال يحمل في طياته نصف الجواب، على الأقل. حسن ولد المختار ----- الكتاب: دبلوماسية التواطؤ: الانحرافات الأوليغاركية للنظام الدولي المؤلف: برتراند بادي الناشر: لاديكوفرت تاريخ النشر: 5 مايو 2011