بعد عقدين على انهيار الاتحاد السوفييتي، الدولة الأكثر إلحاداً في التاريخ، تقول الأغلبية الساحقة من الروس اليوم إنها مؤمنة، وهي نسبة أكبر مما هو موجود في أي بلد أوروبي آخر، وذلك حسب استطلاع جديد للرأي أجراه في أبريل الماضي "صندوق الرأي العام" المستقل، ووجد أن 82 في المئة من الروس يقولون إنهم مؤمنون متدينون، في حين يقول 13 في المئة فقط منهم إنهم لا يؤمنون بأي دين. غير أن الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية القوية لن تجد ما يدعو للاحتفال في تفاصيل هذا الاستطلاع. ذلك أن الكنيسة تقول إن 70 في المئة من الروس يتبعون لها؛ وعلى هذا الأساس نجحت في الضغط على الكريملن حتى يعيد إليها معظم الأملاك التي صادرها البلاشفة قبل نحو مئة عام، ومن ذلك مساحات واسعة من الأراضي، وكنائس، وأديرة، والآلاف من القطع الأثرية التي كانت في متاحف الدولة سابقاً. لكن حسب استطلاع الرأي المذكور، فإن 50 في المئة فقط من الروس يقولون إنهم أورثوذوكس، في حين لم يربط 27 في المئة أنفسهم بأي ديانة معينة. وفي صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، كانت نسبة المؤمنين غير التابعين للكنيسة 34 في المئة. وفي هذا الإطار، يقول ميخائيل تاروسن، رئيس قسم العلوم الاجتماعية بمعهد "المشاريع العامة" المستقل في موسكو: "سيكون صحيحاً وصف روسيا بأنها بلاد متدينين، لكن لا يمكن وصفها ببلاد الشعب المتدين"، مضيفاً: "لقد كنا رسمياً دولة ملحدة طيلة 74 عاماً، وسيتطلب الأمر بعض الوقت حتى نخرج من تأثيرات ذلك. أما في الوقت الراهن، فلا أعتقد أننا نستطيع أن نضع نسبة الناس المتدينين حقاً، الذين يذهبون إلى الكنيسة، في أكثر من 20 في المئة". ويقول خبراء إن معظم الروس يعيشون حياة علمانية ولا يلتفتون كثيراً إلى الجهود التي تقوم بها الكنيسة الأورثوذوكسية على نحو متزايد من أجل التأثير على الأخلاق العامة، ومن ذلك دعوة كاهن بارز مؤخراً إلى سن قانون وطني للزي، وعدد من الدعاوى القضائية التي حرّكتها الكنيسة ضد "التجديف" الفني. وفي هذا السياق، يقول فلاديمير جوربوليكوف، نائب رئيس تحرير "فوما"، وهي مجلة تبشيرية تنشرها الكنيسة الأورثوذوكسية: "ما من شك في أن الأورثوذوكسية هي الديانة التقليدية في روسيا، لكن جزءاً صغيراً فقط من أولئك الذين يصفون أنفسهم بالأورثوذوكس يذهبون في الواقع إلى الكنيسة بانتظام، ويحيون الأعياد الدينية، ويمارسون الشعائر والطقوس"، مضيفاً: "إن المشكلة هي نقص المعلومات في المجتمع. فالناس ليس لديهم اتصال عادي مع الكنيسة وغير قادرين على إقامته، لذلك لا يعرفون الديانة المسيحية الأورثوذوكسية، حتى وإن كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً منها". وفي مفاجأة أخرى، وجد استطلاع الرأي المذكور أن 4 في المئة فقط من الروس يعتبرون أنفسهم مسلمين، أي أقل بكثير من نسبة 15 في المئة التي يشير إليها معظم علماء الاجتماع. وأحد أسباب ذلك، حسب الخبراء، هو أن استطلاع الرأي الذي أجراه "صندوق الرأي العام" -الذي استجوب 1500 شخص في 44 من مناطق روسيا الـ89– قد يكون تجنب جمهوريات شمال القوقاز التي تعرف حركة تمرد وتعيش فيها أغلبيات مسلمة. والجدير بالذكر أن البلاد تتوفر رسمياً، وفق القانون الروسي، على أربع "أديان مؤسسة" هي: الأرثوذوكسية والإسلام والبوذية واليهودية. وقد وجد الاستطلاع أن 1 في المئة من الروس بوذيون، وأقل من 1 في المئة يهود، غير أنه وجد بالمقابل أن الكاثوليك، غير المعترف بهم وفق القانون الروسي والذين يتعرضون أحياناً للتحرش القانوني، يبلغ عددهم حوالي 7 في المئة. واللافت أن نتائج استطلاع "صندوق الرأي العام" تتباين شيئاً ما مع استطلاع عالمي للمعتقدات الدينية أجري في أبريل الماضي من قبل "إبسوس"، وهي شركة لبحوث الأسواق الدولية. فقد وجد هذا الاستطلاع أن 51 في المئة من الناس على صعيد العالم يؤمنون بـ"ديانة ما"، مقارنة بنحو 18 في المئة لا يفعلون، و17 في المئة ليسوا متأكدين. وحسب استطلاع الرأي الذي أجرته "إبسوس"، فإن 56 في المئة من الروس يؤمنون إيماناً قوياً بـ"ديانة ما"، في حين تؤمن 18 في المئة منهم بالدين "أحيانا". ومع ذلك، فإن هذه النتيجة تضع روسيا في صدارة القائمة في أوروبا، حيث اعتبر 51 في المئة من البولنديين، و50 في المئة من الإيطاليين، و27 في المئة من الألمان، و18 في المئة من السويديين... أنفسهم مؤمنين مؤكدين. وبالمقابل، جاءت بلدان أخرى، مثل إندونيسيا وتركيا والبرازيل والمكسيك والولايات المتحدة، أكثر تديناً مقارنة مع روسيا. وتعليقاً على هذا الموضوع، تقول مارينا ماشيدلوفا، الخبيرة في الأديان بـ"معهد العلوم الاجتماعية" الرسمي في موسكو: "من الصعب جداً الحصول على صورة واضحة عندما يتعلق الأمر بالدين، وهناك متغيرات كثيرة يمكن أن تؤدي إلى صورة خاطئة"، مضيفة: "لكن الاتجاهات الواردة في الاستطلاع الذي أجراه صندوق الرأي العام تؤكدها دراسات أخرى. وأحد الأسباب هو الإيمان بدون ممارسة دينية؛ ذلك أن حوالي ثلث الناس ليسوا راضين عن الكنائس المنظمة ويختارون البقاء خارجها". ثم هناك سبب آخر ويتمثل في نقص المعرفة الدينية بين القاعدة الضخمة بشكل سطحي للكنيسة الأورثوذوكسية. وفي هذا الإطار، تقول ماشيدلوفا: "إن أغلبية الناس الذين يقدمون أنفسهم على أنهم أورثوذوكس عندما يطلب منهم تعريف ديانتهم لا يستطيعون الإجابة حتى عن أبسط الأسئلة حولها". ------ فريد وير -موسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"