حين قضت إحدى المحاكم بسجن وزير الداخلية المصري السابق حبيب العادلي 12 سنة في قضايا كسب غير مشروع ونهب مال عام انتظر كثيرون رد رجال السلطة البائدة على الثورة التي أودعتهم السجن، لاسيما أن أغلب المسجونين مع العادلي في سجن طرة متهمون بالتهم نفسها، ناهيك عن تجريمهم بقتل متظاهرين، وهي التهمة التي تصل عقوبتها في القانون المصري إلى حد الإعدام. وجاء الرد هذه المرة مستغلًا النقطة الضعيفة في الجسد الاجتماعي المصري وهي "الملف الطائفي" بعد عقود من الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين سببها النظام السابق الذي مارس تمييزاً ضد المسيحيين في الوظائف العامة واستراح لإبعاد الأقباط عن المجال السياسي العام وتقوقعهم في الكنيسة، التي كان مبارك يضمن من خلال التعامل مع قادتها أغلب أصوات المسيحيين في الانتخابات لحزبه ولنفسه في انتخابات الرئاسة، وكان يعول عليها كثيراً في توريث نجله جمال الحكم، بدليل أن بعض أساقفة الكنيسة باركوا أكثر من مرة فكرة التوريث هذه، التي أسقطتها ثورة 25 يناير. وقبل أيام من سجن العادلي كانت وزارة الداخلية قد استغنت عن بعض كبار ضباط أمن الدولة، علاوة على غيرهم تم إبعادهم وإقصاؤهم وتهميشهم بعد ثورة 25 يناير، ومنهم من كان بحوزته الملف الطائفي ويعرف كل شيء عنه. ويعاون هؤلاء الضباط أربعمائة ألف "بلطجي"، كانوا يعملون لحساب الفاسدين من جهاز الشرطة، وأغلب أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطني البائر البائد، وبعض رجال الأعمال المتورطين في نهب المال العام، وهم إلى جانب رجال سياسة تابعين للحزب الحاكم ورجال أعمال تضرروا من الثورة، يشكلون الجسم الرئيسي للثورة المضادة. وهؤلاء "البلطجية" يشعرون الآن بيُتمٍ وغربة، فيزداد توحشهم ضد المجتمع، ويبحثون بكل ما في وسعهم عن عالمهم القديم، والرجال الذين كانوا يدفعون لهم من مال الشعب وقوته، ويضعون إمكاناتهم تحت تصرفهم وأمرهم. ومن ثم يسهل تجنيد هؤلاء ودفعهم إلى ممارسة كل أفعال مشينة تغذي الثورة المضادة، عن طريق المال تارة، والعلاقات التي تربطهم برجال أمن وسياسيين تارة أخرى. وهناك معلومات تؤكد أن ما جرى في حي إمبابة بالجيزة من فتنة طائفية سقط فيها 12 قتيلًا وما يربو على مائتي جريح، كان حادثاً مدبراً، فشهود عيان أكدوا ضلوع "بلطجية" في الحدث ومعلومات أخرى زعمت أن رجال أمن ضالعون أيضاً فيما جرى. نعم بدأت المشكلة بمجموعة من السلفيين يبحثون عن امرأة أسلمت وقيل إن الكنيسة خبأتها، لكن وقع بعدها هرج ومرج ودخل على خط الأحداث تابعون للنظام السابق، لإثارة فتنة طائفية، أملًا في إشعال حرب أهلية تجهز على الثورة، وتحقق وعيد مبارك الذي أطلقه في خطاباته الثلاثة التي ألقاها أيام الثورة وقام على معادلة واضحة مفادها: أنا أو الفوضى. والناس في مصر أزعجتهم أحداث الفتنة الطائفية التي أطلت مرة جديدة بوجهها القبيح من حي إمبابة، في محاولة مكشوفة لإجهاض ثورة يناير وتصفيتها تباعاً. ويرى هؤلاء أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وإن كان يدير البلد مؤقتاً حتى يُسلم الحكم إلى رئيس مدني منتخب فإنه يشكل حاليّاً السلطة السياسية الفعلية، وبالتالي فإن ضبط الأمور واستقامتها وفق القانون هما مسؤوليته، في ظل القاعدة المتعارف عليها، التي تبين أن الاستقرار وعودة الأمن شرط أساسي لتمكين الثورة من إدارة عجلة الإنتاج، وبالتالي فتح الطريق أمام بناء نظام جديد على دعامتين رئيسيتين هما الديمقراطية والتنمية. وهنا لا يكفي "الحياد السلبي" في مواجهة الذين يريدون أن يحرقوا الأخضر واليابس على أرض مصر، ولا تكفي الطرق التقليدية والعرفية في علاج الأحداث الطائفية الممقوتة، إنما يجب تطبيق القانون وإنفاذه على الجميع، بما يردع كل من تسول له نفسه أن ينال من الوحدة الوطنية، التي تمثل، إلى جانب «جريان النيل»، العصب الرئيسي للأمن القومي المصري. وفي ركاب هذه الفتنة يبدي الناس انزعاجاً من انتشار "البلطجية" في الشوارع، لاسيما بالأحياء الشعبية، وقيام بعضهم بفرض إتاوات على الناس أو سرقتهم تحت تهديد السلاح. وهذا عبء شديد من دون شك، وإذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد صدَّق على قانون مكافحة "البلطجة" فإن تفعيله لا يزال دون المستوى الذي يضمن الأمن والأمان للناس. فمن يفسد في الأرض ويروّع الآمنين ويعتدي على الحرمات ويثير الفتن لا يمكن التعامل معه برخاوة أو نعومة، تحت أي دعوى. وهذه المسألة تعني حكومة الدكتور عصام شرف أيضاً، التي يبدو وزير داخليتها مفتقداً لياقة تؤهله لإدارة هذه الفترة العصيبة التي تمر بها أمتنا المصرية العظيمة، فأغلب ضباطه لا يزالون متخاذلين، فإما أن يكونوا فوق الناس يستعبدونهم ويسرقونهم وإما أن ينقطعوا عن العمل، وكأنهم لا يستطيعون العمل في مناخ طبيعي. وليس لهؤلاء سوى الشدة، فإما أن يعودوا إلى العمل وإما أن يحالوا إلى التحقيق، فحال مصر لا يعطي أحداً أريحية التساهل مع من يتخلون عن واجبهم، ويخونون القسم الذي أقسموه عند تخرجهم في كلية الشرطة. والوضع الراهن يؤكد خطورة ترك أعضاء الحزب الوطني دون عزل سياسي، أو على الأقل حل المجالس المحلية المزورة التابعة لهذا الحزب التي لا تزال في السلطة حتى الآن، ويؤكد هذا أيضاً ضرورة البحث عن الجناة من الصفين الثاني والثالث من النظام القديم وتقديمهم إلى المحاكمة.