حجبت فرحة التسوية بين حركتي "فتح" و"حماس" علامة الاستفهام الكبيرة حول الثمن الباهظ الذي دفعته القضية الفلسطينية نتيجة لهذا الخلاف. ويكفي التوقف أمام رد الفعل الإسرائيلي على المصالحة الفلسطينية لإدراك حجم المكاسب التي حققتها إسرائيل من الخلاف الذي استمر على مدى السنوات الخمس الماضية. وقد انهمرت التهاني من كل حدب وصوب على كل من عباس ومشعل، ولكن لم تجرِ (وقد لا تجري) محاسبة أي منهما على ما حدث طوال تلك الفترة الطويلة داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى مدى الشتات الفلسطيني في العالم وخاصة في المخيمات في لبنان وسوريا والأردن. فقد زهقت أرواح، واستبيحت كرامات واعتُقل أبرياء، وتعطلت أعمال ومصالح، وانتشرت صورة سيئة، بل بالغة السوء، عن القضية الفلسطينية. وقد اتخذ نتنياهو أمرين إثر التوقيع على المصالحة في القاهرة. الأمر الأول هو وقف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية بحجة أن قرارها أصبح مرتبطاً بقرار حركة "حماس". وأن هذه الحركة التي تعتبرها إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة) حركة إرهابية لا تعترف بإسرائيل وتريد إزالتها عن الخريطة؛ وبالتالي لا يمكن التعامل معها، ولا يجوز أن تكون طرفاً في المفاوضات. أما الأمر الثاني فهو مصادرة عائدات السلطة الفلسطينية من الرسوم والضرائب التي تجبيها إسرائيل على صادرات الضفة الغربية، والتي تشكل الدخل الأساس الذي تعتمد عليه السلطة لدفع رواتب الموظفين الإداريين والأجهزة الأمنية. وقد ذهبت إسرائيل إلى أبعد من ذلك عندما أعلنت حتى بالنيابة عن الولايات المتحدة وباسمها أنه "لا أموال سوف تسدد للسلطة الفلسطينية من إسرائيل، ولا مساعدات سوف تقدم إليها من الإدارة الأميركية إذا التزمت بالتسوية مع حركة حماس". وهذا لا يعني فقط إعلان القطيعة السياسية والمالية الإسرائيلية مع السلطة، ولكنه يعني أيضاً أن القطيعة قد تشمل الولايات المتحدة كذلك. وتسعى إسرائيل لتوسيعها بحيث تشمل الاتحاد الأوروبي. وتلك كانت مهمة نتنياهو في عواصم الدول الأوروبية التي قام بزيارتها وعلى رأسها باريس وبرلين ولندن. ويعكس هذا الموقف الإسرائيلي من جهة أولى مدى انزعاج إسرائيل من المصالحة الفلسطينية، ويعكس من جهة ثانية مدى ارتياح إسرائيل للخلاف الذي استمر خمس سنوات. ويعكس من جهة ثالثة الحرص الإسرائيلي على بث الخلاف وزرع بذور الشقاق بين الفصائل الفلسطينية؛ ذلك أن استضعاف المفاوض الفلسطيني يتطلب استمرار الانقسام الفلسطيني. ومن هنا فإذا كان من المهم تهنئة حركتي "فتح" و"حماس" على التسوية التي وقعتا عليها وتشجيعهما على المضي قدماً في احترام بنودها والتنبه إلى الدسائس الإسرائيلية لإعادة بث الخلاف حول التفاصيل اللاحقة التي تتعلق بتنفيذ بنود اتفاق المصالحة، فإن من المهم أيضاً مراجعتها أسباب الخلاف وعن مسؤوليتهما في تحمل النتائج السلبية الخطيرة التي تعرضت لها القضية الفلسطينية من جرائه. وفي ضوء سلسلة المحاولات العديدة التي بذلتها مصر من أجل جَسْر الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية، فإن من الواضح أنه ما كان للمصالحة أن تتم لولا توافر عاملين أساسيين: العامل الأول هو نجاح الثورة المصرية التي أطاحت بمبارك الذي كان يستدرج عباس إلى موقعه المهادن لإسرائيل والمتحالف مع واشنطن. أما العامل الثاني فهو تواصل الأحداث السورية، مما خفف من قوة تأثيرها على قرار مشعل. فالثورة المصرية أدت إلى مقاربة جديدة للدور المصري تمثلت بالانفتاح على الحركة، وتجسد في فتح معبر رفح مع غزة. والأحداث في سوريا حررت "حماس" من بعض مستلزمات التحالف السوري- الإيراني. ويبدو أن قراءة حركة "حماس" للصورة الجديدة للعلاقات العربية- الإيرانية، انطلاقاً من تداعيات أحداث البحرين ودخول قوات درع الجزيرة إليها، والاستنكار الإيراني لهذا الدخول، ساهم أيضاً في إعادة النظر في حسابات التحالفات الإقليمية التي كانت تعتمد عليها. ثم إن هناك أسباباً داخلية فلسطينية كان لها تأثير مباشر على التوجه الجديد الذي دفع "فتح" و"حماس" إلى تجاوز اختلافاتهما، والهرولة إلى المصالحة. وفي مقدمة هذه الأسباب، الغضب الفلسطيني داخل قطاع غزة والضفة الغربية معاً جراء استمرار هذه الاختلافات في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وبناء المزيد من المستوطنات اليهودية، وتشريد المزيد من الفلسطينيين. فقد تراجعت شعبية كل من الحركتين، وارتفعت الأصوات ضد نهجيهما الذي تحول من مواجهة العدو الإسرائيلي المشترك إلى مواجهة مع الذات. ولم تغير من هذه الصورة محاولات كل منهما إلقاء اللوم على الآخر. فالرأي العام الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، ألقى اللوم عليهما معاً، الأمر الذي كان ينزل برداً وسلاماً على إسرائيل. والآن وقد فتحت صفحة جديدة بين الحركتين فإن المراهنة على صمود المصالحة تحتاج إلى نسبة عالية من التفاؤل، خاصة عندما تستأنف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية. ومن المتوقع أن تحاول إسرائيل ابتزاز المفاوض الفلسطيني كثمن لقبول مشاركة "حماس" في السلطة. ومن المتوقع أيضاً أن يشمل هذا الابتزاز الموقف الأميركي أيضاً. ويضاف إلى ذلك أن المفاوضات المقبلة ستجري في وقت يحتاج فيه أوباما نفسه أيضاً إلى استرضاء اللوبي اليهودي لتعزيز موقعه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي بدأت أجواؤها فعلاً! وفي الأساس يلتقي عباس ومشعل على مبدأ أساس وهو قبول دولة فلسطينية ضمن حدود 1967. وهذا يعني ضمناً قبول إسرائيل والاعتراف بها. وفي الأساس أيضاً يختلف الزعيمان حول مبدأ آخر، هو المفاوضات. فالرئيس الفلسطيني مقتنع بأنه لا حل إلا بالتفاوض. بينما يقتنع زعيم "حماس" بأن عشرين سنة من المفاوضات لم تؤدِّ إلى نتيجة. وأنه لا توجد ضمانات بأنها ستكون مختلفة هذه المرة. ومع ذلك فإن أهم قاعدة تفاهما عليها هي إعطاء المفاوضات فرصة جديدة ولمدة عام. فإذا أثمرت "فبها ونعمت".. أما إذا انتهت كسابقاتها إلى لا شيء، فعندئذ لابد من اللجوء إلى الشرعية الأخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى أن عباس هدد وبكل صراحة وجدية بأنه إذا لم تثمر المفاوضات عن حل سياسي عادل، فإنه سيعتزل ويتخلى عن السلطة. وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فمعنى ذلك أن الأمر كله سيترك لـ"حماس" ولمنهجها السياسي والعقائدي، الأمر الذي يطرح معادلة جديدة تنضاف إلى المعادلات التي تطرحها سلسلة المتغيرات في العالم العربي.