لا شك أن مقتل زعيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، على يد وحدة أميركية خاصة في الأول من شهر مايو الجاري، سيكون له ما بعده، لاسيما بالنسبة للمشهد الاستراتيجي الذي لابد أنه سيتغير وإن كان هذا التغير لن يصل حد الثورة أو الانقلاب في العلاقات الدولية. فرغم الأهمية القصوى التي يكتسيها مصرع بن لادن، لن يغير الحدث البنيات الأساسية للنظام الدولي على نحو جوهري، فهو لا يطوي مرحلة ولا يفتح أخرى، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالإرهاب. فمع أن الضربة التي تعرض لها الإرهاب كانت قاسية، والانتصار الذي حققته الولايات المتحدة كان ناجزاً، إلا أن ذلك لا يعني نهاية الإرهاب وتوقف نشاطاته المدمرة، بل بالعكس ربما نشهد في المرحلة المقبلة تنامياً للعمليات الإرهابية؛ إما انتقاماً لمقتل زعيم "القاعدة"، أو لإثبات أن التنظيم الإرهابي الأول في العالم ما يزال حياً وقادراً على الضرب. ولئن كانت "القاعدة" قد دخلت منذ فترة مرحلة من الضعف، وجاء موت زعيمها ليفاقم الضعف ويكرسه، إلا أنها في النهاية لم تمت، ومازالت قدرتها مستمرة، وبخاصة في مناطق محددة بعيدة من الحدود الأفغانية الباكستانية؛ مثل اليمن والعراق ومنطقة المغرب العربي. غير أن اختفاء بن لادن عن الساحة لن يؤثر فقط على مستقبل الإرهاب في الساحة الدولية، بل سيكون له أثر كبير أيضاً على الساحة الأميركية. فقد استفاد الرئيس أوباما من مقتل بن لادن كما لم يستفد أي رئيس آخر، ويبدو أنه نجح فيما فشل فيه سلفه، بوش، الذي أعلن الحرب الكونية على الإرهاب ورموزه، وجند في سبيل ذلك الإمكانات الأميركية الهائلة، بل اضطر إلى خوض حروب باسم التصدي للإرهاب وقطع دابره. ولتكريس الرصيد السياسي الذي حازه أوباما بعد عملية الاغتيال تلك، حرص على إشراك بوش في جهود البحث عن بن لادن، وهي خطوة سياسية ذكية أراد من خلالها الرفع من شعبيته، لاسيما وأنه طالما اتُهم على غرار باقي الرؤساء الديمقراطيين بالضعف والتهاون في التعاطي مع القضايا الأمنية، فكان أن أصدر قراره الرئاسي بتنفيذ العملية ليمحو صورة الضعف والتردد ويعوضها بالقوة والنجاح، بهدف واضح يتمثل في تعظيم حظوظه خلال الانتخابات الرئاسية وتسجيل نقاط ضد خصومه السياسيين، وإن كان من السابق لأوانه توقع معركة انتخابية سهلة بالنظر إلى بُعد الاستحقاق الانتخابي، دون أن يمنع ذلك الرئيس ومسانديه من التركيز في حملته الرئاسية على نجاحه في قتل بن دلان وتخليص أميركا من شروره. أما عن الظروف التي تمت فيها العملية وملابسات قتل بن لادن، فهي لا تخلو من جدل ونقاط استفهام، فقد ساهمت الطريقة التي تمت بها العملية وما تلا ذلك من روايات متضاربة، في تعزيز نظرية المؤامرة لدى البعض. والحقيقة أن بن لادن لم يكن ذلك الشخص الذي يقبل بتكبيل يديه من قبل القوات الأميركية، أو الخروج إليهم وهو يلوح بالراية البيضاء، لذا كان طبيعياً أن تنتهي العملية بمقتله. كما أن اعتبارات أخرى أميركية رجحت هذه النهاية، إذ لم يكن متوقعاً أيضاً أن تلقي أميركا القبض على بن دلان حياً تفادياً للدخول في إشكالات قانونية بشأن محاكمته. هذا بالإضافة إلى ما أثاره رمي جثمان بن لادن في البحر، بدل دفنه، من نقاش واسع، ليرتفع بذلك منسوب الشك لدى البعض. ولم تنفع تأكيدات الإدارة الأميركية بأنها أرادت فقط الحؤول دون تحول مدفن بن لادن إلى مزار يؤمه مساندوه، في تبدبد الشكوك ولجم التساؤلات، بل إن البعض فسر امتناع نشر الولايات المتحدة لصور بن لادن، بأنه مازال حياً، فيما ذهب آخرون إلى اعتبار الطريقة التي سارعت بها أميركا إلى قتل بن لادن أنها تدل على تواطئها معه. ويبقى الجانب الأهم في مصرع بن لادن هو تزامنه مع ما تشهده المنطقة العربية من ثورات سميت بالربيع العربي، فرغم الصدفة البحتة التي جمعت بين الحدثين، إلا أنه لا يمكن إنكار النتائج المشتركة والمتمثلة في تقليص حيز الإرهاب ومنع تمدده. فقد فشل النموذج الذي كان يقترحه بن لادن للإطاحة بالأنظمة التي رأى أنها فاسدة ومرتهنة للغرب، وهو النموذج القائم على العنف الأهوج الذي لا يفرق بين المدنيين العزل والمسلحين. فمع هبوب رياح التغيير على العالم العربي، من تونس إلى مصر ثم شعوب أخرى تصارع لإقرار حقوقها وتكريس الديمقراطية والحرية، تبين أن الشعوب قادرة -عبر الانتفاضات السلمية- على الإطاحة بالأنظمة وفرض أجندتها. بل أكثر من ذلك؛ أظهرت الانتفاضات الناجحة في تونس ومصر قدرة القوى الإسلامية السياسية على الاندماج في الحياة العامة ودخول اللعبة السياسية، مصححة ذلك الخلط الذي يسود في الغرب، وحتى لدى بعض الأنظمة العربية، بين الإسلامي والإرهابي. ويبدو أن الغرب أدرك هذه الحقيقة، وهو اليوم مستعد للتعامل مع تلك القوى بدل إيكال مهمة قمعها إلى الأنظمة، هذا القمع الذي لم يولِّد سوى العنف ومزيد من التطرف. وفيما يتعلق بأفغانستان فقد أصبح من السهل اليوم، بعد مقتل بن لادن، التفاوض مع "طالبان" والترويج لذلك إعلامياً تمهيداً لسحب القوات الأميركية من البلاد مع حفاظ الولايات المتحدة على ماء وجهها بعدما نجحت في القضاء على زعيم "القاعدة". وأخيراً لابد من التحذير من مغبة الانتشاء بالنصر إثر مقتل بن لادن؛ لأن الأسباب الحقيقية التي تقود إلى الإرهاب وتؤجج التطرف، مازالت قائمة، مثل: الفوارق الاجتماعية، والشعور بالظلم، واستمرار الصراعات المزمنة عبر العالم... وهي المهمة التي لم تنته بمقتل بن لادن.