إذا كنا أكدنا من قبل أن التطرف الإيديولوجي -مثله في ذلك مثل العولمة- ظاهرة تملأ الدنيا وتشغل الناس، إلا أنه ينبغي في الواقع أن نركز على التطرف الإيديولوجي الذي ينتسب للإسلام زوراً وبهتاناً ولعل المظاهرات التي قامت بها الحركة السلفية في مصر مؤخراً والتي رفعت شعارات طائفية ممجوجة نموذج بارز لذلك. ومن أسف أن تتحول هذه المظاهرات إلى فتنة طائفية كبرى بين المسلمين والأقباط، سقط فيها قتلى وجرحى من الجانبين. وهذا التركيز المطلوب على الظواهر المتعددة للتطرف الإيديولوجي الإسلامي يجد مبرره في تحول هذا التطرف في العقود الأخيرة إلى إرهاب عابر للقارات! بمعنى أنه لم يقنع بتوجيه ضرباته إلى النظم السياسية الحاكمة في بلاد عربية أو إسلامية محددة، على أساس أنها تمثل "الطغيان" الذي ينبغي مواجهته بالانقلاب عليه وباستخدام كل الوسائل، بما في ذلك قتل المدنيين الأبرياء، ولكنه وسع من نطاق رؤيته الإرهابية ليضع في دائرة أهدافه الغرب عموماً باعتباره يمثل الكفر والانحلال. وربما تعبر نظرية الفسطاطين التي صاغها بن لادن زعيم تنظيم "القاعدة" عن هذه الرؤية أوضح تمثيل. ويلفت النظر بشدة أن أفراد الجماعات الإسلامية في مصر وأولها "الإخوان المسلمون" اعتبروا بن لادن بعد الإعلان الأميركي بمقتله شهيداً وليس إرهابيّاً روع الآمنين وتسبب في مقتل عديد من المدنيين. ولعل الاهتمام العالمي المتزايد بالتطرف الإيديولوجي والإرهاب الإسلامي يجد مبرره في أحداث 11 سبتمبر، حين وجه تنظيم "القاعدة" ضربات إرهابية مؤثرة وجهت لمراكز القوة الأميركية، بالإضافة إلى أحداث إرهابية أخرى وقعت في إسبانيا وإنجلترا، بالإضافة إلى الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد السعودية والمغرب والجزائر وغيرها من البلاد. ومعنى ذلك أن المساحة العالمية للتطرف الإيديولوجي والإرهاب احتلها التطرف والإرهاب الإسلامي، بعد أن خلت الساحة من الإرهاب الألماني والإيطالي والياباني، الذي ساد من خلال منظمات إرهابية معروفة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات. ولعل السؤال الرئيسي الذي ينبغي إثارته الآن هو: كيف نواجه التطرف؟ هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والأدوات السياسية. وهو منهج في تقديرنا عقيم، لأنه ليس بالأمن وحده يجابه الإرهاب. وهناك إجابة أخرى نتبناها وتتمثل في منهج السياسة الثقافية التي تقوم على أساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف والإرهاب. ولو أردنا أن نعدد مفردات المنهج الأمني والسياسي -وهو منهج ضروري ولكنه ليس كافيّاً- لوجدناها تتمثل في عديد من الأساليب. من بينها سياسة تدمير شبكات التطرف والإرهاب من خلال أجهزة الأمن والقانون، وإثارة الانقسامات بين مختلف الجماعات الإرهابية تحت شعار "فرق تسد"، وعزل العناصر المتطرفة، وإعطاء المجال للعناصر المعتدلة حتى يسود خطابها في المجتمع، مع تركيز على الوسطية. ولعل أبرز هذه المفردات هو المواجهة العنيفة الحاسمة مع العناصر المتطرفة والإرهابية لاستئصالها من المجتمع. وإذا كانت هذه الوسائل يمكن أن تكون فعالة في المدى القصير، إلا أنها لا تصلح لمواجهة التطرف والإرهاب على المدى الطويل. لأن هذه الظواهر عادة ما تعبر عن "رؤى للعالم" لها جذور في الثقافة، من خلال تأويلات منحرفة للنصوص الدينية، بالإضافة إلى أنها تعبير بليغ عن التأخر السائد في المجتمعات العربية والإسلامية، نتيجة لارتفاع معدلات الجهل والأمية بين الجماهير العريضة، وبسبب انحياز شرائح من النخب المثقفة للتفسيرات الدينية المتطرفة لأسباب شتى. وفي تقديرنا أنه لابد من إجراء تحليل ثقافي متعمق لظاهرة التطرف والإرهاب، تمهيداً لاقتراح سياسات ثقافية فعالة، قادرة على مواجهة هذه الظواهر على المدى الطويل. ولو أجرينا هذا التحليل الثقافي لاكتشفنا أن في مقدمة الأسباب اختراق الجماعات المتطرفة لنظام التعليم بكل مؤسساته. وقياداتها على وعي دقيق بأن التنشئة المبكرة على التطرف الإيديولوجي تجعل من التلاميذ والطلبة حين يشبُّون عن الطوق، أدوات طيعة يمكن تجنيدها في شبكات الإرهاب المحلية والقومية والعالمية. ويساعد على هذا الاختراق أن التعليم في البلاد العربية والإسلامية يقوم على التلقين وتقوية الذاكرة، ولا يقوم على الفهم ولا على النقد ولا على الحوار بين الأفكار. وبعبارة موجزة فالنظام التعليمي يبذل كل جهده لصياغة "العقل الاتباعي" ويتجنب صياغة "العقل النقدي". ولعل هذا الاتجاه السلبي العقيم تشجعه بصورة مباشرة أو غير مباشرة بعض النظم السياسية العربية والإسلامية المستبدة، لأن العقل الاتباعي تسهل السيطرة عليه، في حين أن العقل النقدي متمرد بطبيعته. ومع ذلك فإن المفارقة التاريخية تؤكد أنه حتى في البلاد التي ساعدت السلطة فيها على تخليق "العقل الاتباعي"، نشطت فيها الجماعات الإرهابية التي استهدفت السلطة نفسها باعتبارها "طاغية" و"كافرة"! فإذا أضفنا إلى ذلك ازدواجية نظم التعليم، بحيث نجد تعليماً مدنيّاً في جانب وتعليماً دينيّاً خالصاً في جانب آخر، (مثاله البارز التعليم الأزهري في مصر، والمدارس الإسلامية في باكستان)، سندرك أن هذه الازدواجية هي أحد أسباب التطرف الإيديولوجي. فالتعليم الديني -كما يمارس فعلاً- يساعد على بلورة رؤى للحياة تتسم بالانغلاق، ويغلب على دراساته النقل وليس العقل. والتعليم الديني التقليدي أكثر استعداداً لقبول وتصديق الخرافات التي تنسب لمصادر دينية، وهي ليست كذلك. بالإضافة إلى آلية التأويل المنحرف للنصوص الدينية التي تطبقها الجماعات المتطرفة، والتي تضفي الشرعية الدينية على أهدافها وأساليبها الإجرامية، ومن بينها استحلال أموال غير المسلمين، وشرعية قتلهم سعياً وراء تحقيق هدفهم الأسمى وهو الانقلاب على الدول العلمانية، وتأسيس الدول الدينية التي تقوم على الفتوى وليس على التشريع، تحت رقابة الرأي العام، بواسطة مجالس نيابية منتخبة في سياق نظام ديمقراطي، يقوم أساساً على الانتخابات الدورية وتداول السلطة، وحرية التفكير والتعبير والتنظيم وسيادة القانون. وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة في العالم العربي خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر الفكر المتطرف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بل إن بعض المنابر والأصوات الليبرالية واليسارية تدافع عن حق الجماعات المتطرفة في الوجود السياسي، مع أن فكرها الانقلابي لا يمكن أن يحترم مبادئ الديمقراطية. ولو أضفنا إلى ذلك بعض القنوات الفضائية الدينية التي تنشر الفكر المتطرف من خلال التأويلات المنحرفة للنصوص الدينية، بالإضافة إلى نشر الفكر الديني الخرافي، لأدركنا عمق التأثير الذي تحدثه في الجماهير العريضة. ويمكن القول إن الخطاب الرسمي للسلطة العربية أحياناً ما يغازل المشاعر الدينية للجماهير، من خلال المزايدة المؤسفة مع فكر الجماعات المتطرفة، سعياً لتأكيد شرعيتها السياسية المفتقدة. وفي سياق التحليل الثقافي لا يجوز أن نتجاهل ظاهرة الإحباط الجماعي للجماهير العريضة نتيجة الفشل الحكومي الذريع في إشباع الحاجات الأساسية للجماهير، وانتشار الفساد، وغياب المحاسبة. ومما لاشك فيه أن ما يفاقم من ظواهر التطرف الإيديولوجي تهافت الخطابات الليبرالية والعلمانية، وعجزها عن الوصول إلى الجماهير العريضة من خلال خطاب سياسي وثقافي سهل التناول، وقادر على إقناع الناس والتأثير في اتجاهاتها وسلوكياتها. وأيّاً ما كان الأمر، فإن مما يزيد من خطورة التطرف الإيديولوجي أنه يقوم على دعامتين: النقد المطلق للغرب باعتباره كتلة واحدة لا تمايز بين جوانبها المتعددة، باعتباره أصل الشرور في العالم، وتضخم الذات المرضي الذي ينزع إلى أن المسلمين فقط بمفردهم، هم الذين سيصلحون حال البشرية! ولو تأملنا الأوضاع المصرية عقب ثورة 25 يناير لأدركنا أن هناك دعوة من قبل جماعة "الإخوان المسلمين" لكافة الجماعات الإسلامية، سلفية كانت أم صوفية، حتى توحد جهودها وتقوم بعملية "غزو إسلامي" شامل للمجتمع المصري في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة، لدرجة إعلانهم أنهم سيقومون بتشكيل فرق رياضية للمناقشة في الدوري والكأس. وبكلمة واحدة إن ثورة 25 سبتمبر في خطر!