كتب "بن ماكينتاير" مقالاً في الـ"تايمز" تحت عنوان "اليوم الذي غير العالم" قال فيه: "من المؤكد أن قتل بن لادن سوف يؤدي لتغيير كوكبنا مرة أخرى". لكن ما كتبه "ماكينتاير" وما كرره كتاب آخرون في وسائل الإعلام في بريطانيا، ليس سوى محض هراء أو في أحسن الأحوال مبالغات انفعالية. ويجب أن نضع في اعتبارنا أن الحصيلة الإخبارية المتدفقة على مدار الساعة يمكن أن تصبح غاية في السأم، ما لم يتم تحديث القصة الرئيسية بحقائق إخبارية مهمة، وهو ما لم يحدث هنا في بريطانيا حتى الآن. والحقيقة أن الولايات المتحدة قد بالغت على نحو خطير في رد فعلها على هجمات "القاعدة" في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهي هجمات دراماتيكية بالتأكيد حيث أسفرت عن مصرع حوالي 3000 شخص، لكنها لم تؤد لتغيير العالم للأبد كما قيل في ذلك الوقت. وعلاوة على ذلك، فقد كان بوش على خطأ عندما اعتقد أن تلك الهجمات تسمح لبلاده بتجاهل القانون الدولي في سياق ملاحقتها المسؤولين عن تلك الجرائم البشعة والصادمة. عقب تلك الهجمات، أعلن بوش أنه يريد أسامة بن لادن "حياً أو ميتاً"، وهي صيحة سمعناها تتردد دوماً في أفلام الكاوبوي القديمة. وقد ظلت أميركا تلاحق زعيم "القاعدة" طيلة تلك السنوات حتى تمكنت من القضاء عليه أخيراً عبر عملية عسكرية مبهرة نفذها الفريق السادس من وحدة البحرية "سيل" العاملة بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والتي شنت غارة صاعقة على الفيلا المكونة من ثلاثة طوابق والمحاطة بأسوار عالية، حيث كان يختبئ بن لادن في مدينة أبوت آباد غير البعيدة من العاصمة الباكستانية إسلام آباد، وبالقرب من أكاديمية عسكرية باكستانية، وهو ما يجعلني غير قادر على تصديق أن الاستخبارات العسكرية الباكستانية التي عملت في وقت ما عن قرب مع "طالبان"، لم تكن تعلم، أو أن أحداً فيها لم يكن يعلم مكان اختباء زعيم "القاعدة". ومما يزيد درجة عدم التصديق أن تلك الفيلا بُنيت منذ ثلاثة أعوام فقط، وأحيطت بجدران سميكة عالية، وكان لابد وأن تثير الشك حول من يسكن فيها خصوصاً وأنها كانت على مقربة من أكاديمية عسكرية كما أشرنا. ورغم ذلك، فليس أمام العالم الغربي من بديل سوى التعاون عن قرب وعلى نحو أكثر فعالية مع باكستان. ويعتقد أن بن لادن، ولسنوات عديدة، تحول إلى شخصية رمزية أو أب روحي لتنظيم "القاعدة"، بعد أن أصبح غير قادر على ممارسة أي فعالية عملياتية، أو التحرك بحرية. وهذا التنظيم الذي ظل محل مطاردة من الطائرات الأميركية بدون طيار، والمزودة بكاميرات تلفزيونية وقنابل دقيقة التوجيه، انتقل معظمه من أفغانستان إلى باكستان، خاصة المنطقة الشمالية الغربية المحاذية للحدود الأفغانية التي أصبحت في غاية الخطورة بعد المعارك التي دارت فيها إثر الهجمات المنسقة التي شنها الجيش الباكستاني على معاقل وملاذات الإرهاب والتي فقد فيها أعداداً كبيرة من رجاله. ولم ينتقل رجال "القاعدة" من أفغانستان إلى باكستان فحسب، بل انتقلوا لبلدان أخرى مثل اليمن والصومال بل وحتى مالي. كما أن دول المغرب العربي تجتذب اهتمامهم، وكذلك القرن الإفريقي الذي تحول إلى أخطر منطقة في العالم. وفي العام الماضي أدلى أبوبكر القربي وزير خارجية اليمن بتصريح لـ"بي. بي. سي" قال فيه إنه يقدر أن عدد أعضاء "القاعدة" في مختلف أنحاء العالم يتراوح بين 200 و300 في أفضل الأحوال، وطالب بتوفير التدريب الضروري، والمعدات العسكرية، للقوات اليمنية للتصدي لمقاتلي التنظيم الموجودين في بلاده. وعلى مدار السنوات العشر الماضي كانت "القاعدة" تتغير على نحو سريع، وقامت بتكوين منظمات تابعة، كما نسقت عملها مع حركات ومنظمات أخرى مثل "طالبان باكستان"، و"الحركة الإسلامية لأوزبكستان" و"اتحاد الجهاد الإسلامي". إن الربيع العربي الحالي لم يأت لإحياء الخلافة الإسلامية، وهي فكرة مفضلة لدى بن لادن. فالشباب العربي الذي يناضل في شوارع مدن مصراته الليبية، ودرعا السورية، وتعز اليمنية... إنما يفعل ذلك من أجل إرساء النظام الديمقراطي البرلماني، ومن أجل حرية الكلمة، وحقوق الإنسان. فالعنف الدموي غير المسبوق الذي مارسته "القاعدة" نفّر العديد من الشباب المسلم في مختلف أنحاء العالم العربي. ولا شك أن أنصار "القاعدة" سيشعرون بالرعب عندما يرون أعلام الثوار في بني غازي تخفق جنباً لجنب مع أعلام بريطانيا وفرنسا، وليس مع شعارات التنظيم أو صور زعيمه. هناك تحذيرات وجهت إلينا بأن "القاعدة" سوف تنتقم لمصرع بن لادن. ولاشك لديّ أنها ستفعل ذلك، لكن التحضير لتلك الهجمات يستغرق شهوراً طويلة، علاوة على أن ترتيبات التصدي للإرهاب في مختلف أنحاء العالم تتطور على الدوام. علينا أن ندرك أن الإرهاب وهجماته الانتحارية قد بات جزءاً من العالم الذي نعيش فيه وليس أمامنا سوى اتخاذ الاحتياطيات الضرورية ومواصلة حياتنا. الأولوية القصوى لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حالياً هي فحص البيانات والأدلة العديدة وأجهزة الكمبيوتر التي عثرت عليها في فيلا أبوت آباد. ومن المأمول أن يسفر ذلك عن توفير معلومات حديثة ومهمة عن "القاعدة"، تساهم في إبقاء التنظيم في حالة هروب لسنوات طويلة قادمة. ومن الآراء المتداولة حالياً أنه بما أن الهدف الجوهري من وراء غزو أفغانستان كان القبض على بن لادن، فإن قتل زعيم "القاعدة" في العملية الأخيرة، يجب أن يعجّل بانسحاب القوات الغربية من ذلك البلد. المشكلة بالنسبة لهذه الفكرة هي أن الصراع الدائر في أفغانستان يمضي على نحو بالغ السوء. فـ"طالبان" وبقايا "القاعدة"، والمتطوعون القادمون إلى هذا البلد من مختلف أنحاء العالم، يتشاركون في كراهيتهم للرئيس الأفغاني كرزاي المدعوم من الغرب، والذي يتهمه خصومه بتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كما يتحدثون عن فساد شديد في إدارته وانعدام للكفاءة. ورغم المكاسب التي تحققت في مجال الأمن في أفغانستان فإن عدد الحوادث الأمنية التي وقعت فيها خلال العام المنصرم، قد ازدادت، كما أن "طالبان" اقتربت من العاصمة كابول. أما الجيش الأفغاني فغير قادر على مواجهة ذلك، بسبب افتقاره للمعدات العسكرية الضرورية وخصوصاً المروحيات والعربات المدرعة. إنه لشيء طيب أن يختفي بن لادن من حياتنا... لكن المقلق أن هناك مشكلات هائلة قد بقيت من بعده. محمود