خلال العقدين الماضيين أصبحت العولمة وتأثيراتها على الشعوب والمجتمعات تشغل حيزاً واسعاً لدى المفكرين والمثقفين ليس فقط على الصعيد العربي وإنما لدى مختلف الأمم والثقافات التي ترى أن العولمة الثقافية تشكل تهديداً لهويتها وقيمها ومعتقداتها. ليس من المبالغة أو التهويل القول إن الطوفان المعرفي والثقافي الذي يجتاح العالم والمعتمد على وسائل الاتصال الحديثة المتجاوزة للحدود، والمدفوع بالنظام الرأسمالي المعتمد على تعزيز قيم الفردية والاستهلاك، من شأنه أن يكتسح ويقصي الثقافات المحلية، بعد أن هيمنت القيم المعولمة على المشهد الثقافي العالمي. هناك تساؤلات مشروعة يجب أن يسألها كل مهتم ومعني بالشأن الثقافي المحلي والهوية الوطنية. أسئلة من قبيل: إلى أي مدى تستطيع هويتنا الصمود والبقاء في وجه الطوفان المعرفي مع وجود خلل في التركيبة السكانية؟ وهل مفردات لغتنا ولهجتنا "رمستنا" المحلية ستكون متداولة عند أبناء الجيل القادم أم أن مفردات العولمة واللهجة الخليطة والمصطلحات الغربية ستطغى على حديثهم اليومي؟ وهل ستصل خراريف الجدات وقصص "أم دويس" و"أبودرياه" وحكايات الغوص ومعاناة أهل البر والبحر إلى الأجيال القادمة أم أن أفلام استيديوهات ديزني للأطفال والكارتون الياباني ستغيّب كل ما سواها؟ هل سيكون لأسماء الألعاب الشعبية القديمة أي حضور في المستقبل وسط طغيان ألعاب البلاي ستيشن وإكس بوكس وألعاب الديجيتال؟ هل نستطيع أن نواصل توريث هويتنا وثقافتنا لأحفادنا كما فعل ذلك معنا آباؤنا وأجدادنا؟ وهل سيصلهم هذا الموروث محتفظاً بأصالته أم مشوهاً، أم أننا آخر جيل تلقى هذا الموروث الذي سيفنى وينقرض بفنائنا؟ إن قيم العولمة تتم ممارستها بشكل يومي لأنها دخلت تفاصيل حياة الجيل الناشئ، وأصبح يتعاطى مفرداتها وتفاصيلها سواء في ما يشاهد وما يسمع وما يأكل وما يلبس وكذلك طريقة الكلام وطبيعة العلاقات ونمط الحياة، أما قيم ثقافتنا وهويتنا فهي في الغالب لم تعد تمارس في المنزل ولا في العمل ولا في الجامعات أو حتى في الشارع، وفي أحسن الحالات هي مجرد تراث يتعرف عليها في حصص التربية الوطنية المدرسية. هذه دعوة ليس للعزلة عن العالم والتقوقع والعودة لزمن الغوص على اللؤلؤ حتى نحافظ على هويتنا. فنحن نراهن على تطوير مجتمعنا بالتفاعل الإيجابي في الحراك الحضاري الإنساني في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية لتحقيق التنمية الشاملة والرخاء للوطن والمواطن. والتحدي هو في أن نتفاعل بإيجابية مع هذا الحراك الحضاري وفي الوقت نفسه لا نخسر هويتنا وقيمنا المتوارثة بأن نصبح مجرد متلقين سلبيين لكل ما يقدمه الآخر. فالتفاعل مع العالم الحديث لا يعني أن نرضى بالذوبان فيه. لا شك أن هناك مبادرات ومشاريع عديدة وجديرة بالإشادة تقوم بها جهات نذرت نفسها للمحافظة على التراث وترسيخ الهوية والثقافة المحلية وحفظ التراث المادي والمعنوي، وتقوم بذلك من منطلق وطني نابع من الغيرة على هذه القيم والمبادئ وحفظها من الاندثار، إلا أن هذه المبادرات أشبه بمن يضع بعض الصخور في واد يجتاحه سيل جارف. هذه المبادرات والبرامج التي تقدمها الجهات التي تتولى حفظ الهوية ليست كافية، لأنها لا تستطيع مواجهة ثقافة العولمة التي تغزو الجيل الناشئ. يجب إيجاد وسائل دفاعية أكثر جدوى مثل ترسيخ قيم الهوية المحلية بشكل أكبر في المقررات الدراسية بالمدارس والجامعات. وكذلك تطوير المنتج الثقافي المحلي ليواكب الحياة المعاصرة ويصبح بديلاً جاذباً للجيل الناشئ مع الاحتفاظ بأصالته، كما فعلت ذلك برامج مسابقات "اليولة" ومسلسل "فريج" الكرتوني.