في الملتقى العربي الإعلامي الخامس، الذي دعا إليه في الكويت الأستاذ ماضي الخميس، كان مطلوباً مني أن أتحدث في الجلسة الأولى التي ترأسها زميلنا الدكتور حسن الأهدل، عن مدى مساهمة الإعلام في حوار الحضارات وترسيخ التنوع الثقافي. وهذا التساؤل يثير العديد من الإشكاليات اللامتناهية بسبب تشابك العوامل السياسية والإيديولوجية وكثرة النزاعات وممارسة القوة في تنظيم المجتمع الدولي، وتدفق الصور والكلمات بصفة متسلسلة مما لا يترك دائماً مجالاً للروح النقدية؛ ولقد أحسن أمين معلوف التعبير عندما كتب في هذا الباب: "هل نستخلص من ذلك أن الفورة بدل أن تكون عامل تنوع ثقافي تقود في الواقع بموجب قانون ماكر إلى التنميط؟ الخطر بدون أدنى شك كما يتبين من طغيان نسب المشاهدة والانزلاق وراء ما هو «صائب سياسيّاً»، ولكن هذا النوع من الأخطار ملازم لكل نظام ديمقراطي، إذ يمكن توقع الأسوأ إذا ما وقعنا تحت تأثير العدد... وفي المقابل، لا يمكن الجنوح إجباريّاً إذا أحسنا استعمال وسائل التعبير التي في حوزتنا وإذا عرفنا كيف نكتشف خلف واقع الأرقام المبسط واقع البشر المعقد". فكما أن الحضارات والديانات لا تتحاور فيما بينها، بل ممثلوها وأتباعهم هم الذين يتحاورون فيما بينهم، فإن العاملين في الإعلام هم أصحاب السيل العارم من الصور والكلمات وهم الذين يستطيعون المحافظة على قواعد "الموضوعية" والحياد" و"التوازن" وهم الذين، على العكس من ذلك، بإمكانهم قيادة السفينة إلى محيط يأتيه الموج من كل مكان يصعب التخلص منه مما يزيد تعقيد النزعة المثالية، التي تتطلع إلى دور "نموذجي" أو "طوباوي" لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. والحال أن وسائل الإعلام تظل سيدة الموقف، فهي التي تلعب الدور الأكبر في تكريس الصور النمطية عن الآخر، وتوسيع حدة التوتر وشقة الخلاف بين الأنا والآخر، وهي الوحيدة القادرة على وضع نياشين متتالية، وبسرعة البرق، على صدور مهندسي صراع الحضارات؛ كما أنها هي القادرة على تحويل المواجهة إلى حروب عقائدية يحتمي فيها كل مشارك بمرجعيته الدينية وفلسفته السياسية؛ والنتيجة كما يقول الباحث محمد الشرقاوي أن الإعلام ذاته ساهم في تأجيج مشاعر الحماسة لهذه المواجهة الثقافية قبل أن تكون تصفية حسابات في أرض الوغى، وأصبح يملي اعتبارات جديدة على العلاقات الدولية بين الشرق والغرب في مرحلة نزاعات جديدة بين دول وحركات اجتماعية وأطراف أخرى ليست دولًا على الإطلاق. ولا غرابة أن توصف شبكة CNN منذ حرب الخليج الأولى بأنها "العضو السادس عشر" في مجلس الأمن الدولي، فيما أصبحت "الجزيرة" خلال حرب العراق تنعت بأحد الخصوم الاستراتيجيين لمسؤولي التخطيط السياسي والعسكري في واشنطن. ونفهم هنا خوف أوباما من نشر صور بن لادن وهو قتيل، لأنه يمكن أن تثير أعمال عنف ويستخدمها تنظيم "القاعدة" كوسيلة دعائية وإعلامية؛ وهذا يذكرني بما كان قد أعلنه وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك (17/02/2006) عن تأخر الولايات المتحدة الأميركية عن تنظيم "القاعدة" وأعداء إرهابيين آخرين في مجال السطوة الإعلامية، وعن وجود بون شاسع بين المقاربة المترددة الأميركية للأخبار المنشورة على الإنترنت وما يحققه تنظيم "القاعدة" من نجاح في استغلال وسائل الإعلام. ثم لا ننسى، أن الفورة في بناء مؤسسات الإعلام وزيادة التأثر والتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية كانت على حساب الدور البناء في تعزيز المبادئ والقيم الاجتماعية التي يفترض أن تكون الرسالة المقدسة لها؛ وهذا التطور الإعلامي لم يتماش مع النضج المفترض في مستوى المسؤولية الفكرية والإنسانية والسياسية والعالمية لما يجب أن تنهض به وسائل الإعلام في سبيل تقليل مخاطر الحروب والكوارث وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك. الإعلام هو الطريق السيار الذي من خلاله تمر الصور والكلمات، والإعلاميون هم الذين يقدمون في بعض الأحيان أنصاف الحقيقة إلى المتلقين، وهم الذين يساهمون في صناعة الصور بل وبعض الأخطاء التاريخية (كالتشكيك في نوايا المهاجرين المسلمين والنيل من ثقافة العرب ومنظومة قيمهم ونشر موجات الخوف والقلق في المجتمع الغربي) من خلال الخط التحريري إذا لم يبنَ على أساس الموضوعية والتوازن. ففي أوقات الثورات والحروب والأزمات تكون وسائل الإعلام جزءاً من المشكلة وبإمكانها أن تكون جزءاً من الحل؛ يقول المراسل السابق لصحيفة "نيويورك تايمز" كريس هيدجز (Chris Hedgs) الذي قضى عقوداً في تغطية الحروب في البلقان والجزائر وأميركا اللاتينية والصومال والشرق الأوسط: "تكرر وسائل الإعلام على طريقة الببغاء العبارات البراقة وتردد الأدعية القومية للدولة، وتستشف أسطورة العداء التي تروجها الدولة لنشرها بين الجمهور"، بمعنى أن هناك أناساً يعرفون كيف يخلقون أموراً يقوم الإعلاميون بنقلها على أنها حقائق، وتكون لديهم خريطة طريق محكمة واستراتيجية إعلامية متقنة، ويختطفون اللغة ويشحنون بطاريتها بما يتناسق مع ذلك الخط السياسي المفبرك؛ فالصحفيون والإعلاميون الجيدون "يدركون أنه لا توجد حقائق عارية". يبقى أنه من خلال "ميثاق شرف إعلامي" جديد، يمارس من خلاله الإعلاميون الموضوعية والتوازن والحياد والتريث وضبط النفس في مواجهة "حرارة اللحظة"، وممارسة النقد التأملي المحاسباتي الذي يمنع من الانزلاق إلى تصور القطيعة بين "نحن" و"هم" وبين "الأنا" والآخر، وإعادة الصفة الإنسانية إلى الجميع، يمكن أن يساهم الإعلام في تحالف الحضارات، وصدق هاورد روس (Howerd Ros) عندما قال: "ولا ينبغي أن يتعاطف الصحافيون الواعون مع أحد الأطراف، وإنما يجب أن يكونوا منغمسين في إيجاد الحلول. والصحفيون الواعون للنزاع يختارون كلماتهم بعناية".