أخيراً تم توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية، وكما سبقت الإشارة في مقال الأسبوع الماضي فإن هذه المصالحة -على رغم دواعيها الفلسطينية الملحة- قد تمت أساساً بفعل تغيرات عربية وإقليمية ناجمة في الأساس عن الحركات الاحتجاجية الراهنة في الوطن العربي، والتي أدت ضمن ما أدت إلى سقوط نظام مبارك في مصر وسياسته الخارجية التي تكاد تكون قد انحازت إلى إسرائيل والولايات المتحدة على حساب الفلسطينيين، الأمر الذي سهل على مصر في ظل سياستها الخارجية الجديدة أن تلعب دوراً حاسماً في إنجاز المصالحة. ويعني هذا أن الدور المباشر للشعب الفلسطيني لم يكن هو الأساس في تحقيق المصالحة، إذ اقتصر على تحركات شعبية محدودة قصيرة النفَس طالبت بإنهاء الانقسام دون أن تنجح في تحقيق ذلك، غير أن ردود الفعل الفلسطينية لتوقيع اتفاق المصالحة كانت شديدة الترحيب والابتهاج بما وقع. صحيح أن من البديهي أن يفرح الشعب الفلسطيني للتصالح بين فصائله المختلفة وعلى رأسها فصيلا "فتح" و"حماس" اللذين أدى الانقسام بينهما للمرة الأولى في تاريخ النضال الفلسطيني إلى فصل سياسي بين غزة والضفة يعزز الفصل الجغرافي بكل التداعيات السلبية لهذا الوضع، ولكنني أزعم أن ردود الفعل الشعبية الفلسطينية المرحبة بالاتفاق قد فاقت بكثير هذه المرة مثيلاتها في أعقاب اتفاقي مكة (فبراير 2007) وصنعاء (مارس 2008)، فترى ماذا يكون السبب لو صح هذا الرأي؟ هناك عدد من الأسباب المحتملة نختار هنا أهمها. أول هذه الأسباب طول المدة التي استغرقها الانقسام منذ وقع الصدام الدموي بين "حماس" و"فتح" في غزة في يونيو 2007 وحتى الآن أي أربع سنوات إلا قليلاً. في هذه المدة تفاقمت نتائج الانقسام، سواء في شكل مزيد من تدهور العلاقة بين "حماس" و"فتح"، أو مزيد من التداعيات السلبية على قطاع غزة من ناحية والضفة الغربية من ناحية أخرى، إذ ساعد الانقسام على استمرار الحصار على قطاع غزة، وخاصة أن غياب ممثلي السلطة الفلسطينية عن معبر رفح كان واحدة من أهم الذرائع التي استندت إليها السياسة المصرية في العهد السابق في تبرير مشاركتها في الحصار. وعلى الجانب الآخر فإن عداء حكام الضفة لـ"حماس" لم يشفع لهم عند إسرائيل، فاستمرت الضفة مستباحة من جانب القوات الإسرائيلية تقتحمها متى شاءت، وتطارد فيها نشطاء المقاومة وتعتقلهم أو حتى تقتلهم. ومع ذلك فإن الأثر الأكثر فداحة للانقسام كان يتعلق بكيانية الشعب الفلسطيني، إذ كانت إسرائيل سعيدة بهذا الانقسام، بل وربما كانت لها يد في صنعه، لأنه أفقد الشعب الفلسطيني وحدته الكيانية وبالتالي قوض كافة البدائل المتاحة أمامه، فلم يكن ممكناً لأي من "حماس" أو "فتح" الادعاء بأنه يمثل الشعب الفلسطيني في المسعى التفاوضي. والواقع أن عقم هذا المسعى لم يكن موضع شك، غير أنه من غير المتصور أن يدعي الرئيس محمود عباس تمثيل كل الفلسطينيين في أي مفاوضات مع إسرائيل، ولا كان ممكناً له في حالة التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل أن يلزم "حماس" به. أما "حماس" فإن رفعها رايات المقاومة ضد إسرائيل كان من المستحيل أن يحقق نتيجة تذكر في ظل الانقسام الذي كان يعني حرمان الشعب الفلسطيني من نصف إمكاناته البشرية في أي عمليات للمقاومة مستقبلاً. أما السبب الثاني للابتهاج الشعبي الفلسطيني الفائق باتفاق المصالحة فيتعلق بالموقفين الإسرائيلي والأميركي اللذين أحدثا إحباطاً غير عادي في صفوف الفلسطينيين عموماً والمعتدلين منهم خصوصاً. صحيح أن الموقف الإسرائيلي معروف للكافة، ولكن البعض -وربما كثيرون- قد توقعوا أن يختلف السلوك الإسرائيلي ولو تكتيكيّاً في ظل الانقسام، ذلك أن أحد طرفيه محسوب على معسكر الاعتدال، وكان متوقعاً أن تكافئ إسرائيل هذا النهج -تشجيعاً له في أوساط الفلسطينيين عامة- بتقديم بعض التنازلات ولو الهامشية كرسالة للفلسطينيين بأن التشدد الذي ترفع "حماس" راياته لن ينفعهم، لكن إسرائيل لم تفعل ذلك بالمطلق، بل لقد انطلقت بوتيرة أسرع من أي وقت مضى في تنفيذ مشروعها الاستيطاني. وكان من الطريف والمثير للأعصاب في آن واحد أن يعلق نتنياهو من واقع صدمته من الاتفاق قائلاً إن على عباس أن يختار بين "حماس" وبين السلام، والسؤال هو: أين هذا السلام يا ترى الذي يطالب نتنياهو عباس بأن يختاره بدلاً من الاتفاق مع "حماس"؟ والواقع أن هذا هو المعنى الكامن في رد الرئيس الفلسطيني على تهديد نتنياهو بأن على إسرائيل أن تختار بين السلام والاستيطان، بما يعني أن إسرائيل لا تتصرف وفق الاتجاه الذي يؤدي في النهاية إلى تسوية سلمية للمسار الفلسطيني- الإسرائيلي. ولم يتوقف نتنياهو عند هذا الحد وإنما بدأ الإعداد على الفور لتحرك دولي واسع النطاق يحاول من خلاله أن يثبت مخاطر اتفاق المصالحة، ومنها على الأقل أن حكومة الوحدة الوطنية سوف تكون "حكومة إرهاب" حتى يستقطب المواقف الدولية ضدها ويحاصر احتمالات الموافقة الدولية على إعلان الدولة الفلسطينية. يتصل بالموقف الإسرائيلي مثيله الأميركي بطبيعة الحال والذي يؤيد إسرائيل على نحو شبه مطلق، ولكن البعض كان قد تعلق بحديث أوباما عن سياسة أميركية منصفة من الصراع العربي- الإسرائيلي غير مدرك للمرة الألف أن السياسة الأميركية لا يصنعها أفراد مهما كان لديهم من رؤى "ثورية" تحاول الانقلاب على الوضع الراهن وإنما تنبني على المصالح وتضعها مؤسسات بحيث لم يستطع رئيس أميركي ذو مكانة تاريخية وصاحب رؤية جديدة كجون كيندي أن ينقلب على هذه السياسة، بل ربما يكون قد دفع حياته ثمناً لرؤيته الجديدة. غير أن أوباما قد زاد على ذلك بالمشكلات التي ورثها عن سلفه في العراق وأفغانستان، ومعاركه الداخلية لوضع رؤيته السياسية موضع التنفيذ وبالذات في إقرار قانون التأمين الصحي. وها نحن نقترب من معركته الرئاسية الثانية التي يكون الرئيس الأميركي قبلها في أضعف حالاته لحرصه على حشد التأييد الداخلي له وعدم إغضاب اللوبي الصهيوني الذي يمتلك كثيراً من المفاتيح في الانتخابات الرئاسية. وقد وصل الأمر كما نعلم إلى تنكر الدبلوماسية الأميركية ذاتها للفكرة التي كان أوباما صاحبها بضرورة استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان، وهو ما رفضته إسرائيل بحسم في الوقت الذي تمسك به الفلسطينيون، ولذلك وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. وثمة أسباب أخرى للابتهاج الشعبي الفلسطيني بالمصالحة الأخيرة لعل أهمها يتعلق بالدور المصري في تحقيقها، ودلالات هذا الدور بالنسبة لسياسة خارجية مصرية جديدة تنحاز للفلسطينيين والعرب ولا تلبي المطالب الإسرائيلية الأميركية أيّاً كانت، وهو موضوع على درجة عالية من الأهمية يستحق نقاشاً تفصيليّاً. ولكن المهم فيما سبق أن الشعب الفلسطيني لابد وأنه كان يشعر بمذلة الاستخفاف الإسرائيلي بأبسط حقوقه وعدم الاعتراف بها أصلاً في الوقت الذي تتفرغ فيه فصائله لممارسة الخلاف بل الصدام فيما بينها. ولذلك فإن الاتفاق فتح آفاق باب للأمل في تغيير أوضاعه إلى الأفضل بدلاً من أن تبقى رهينة لدى السياسة الإسرائيلية ومن خلفها السياسة الأميركية. ولكي يترجم هذا الأمل في الواقع الفلسطيني فإن الأمر يحتاج مزيداً من الحراك الشعبي الفلسطيني كضمانة للالتزام بالاتفاق، ولعل الخامس عشر من هذا الشهر يحمل أنباءً طيبة في هذا الصدد.