كان الفيلسوف الفرنسي المعروف "ميشال فوكو" يقول في بداية ثمانينيات القرن الماضي إن العالم المعاصر خرج من أفق الثورة نهائياً، مما يعني أن شكل التغيير الجذري عن طريق حركة الجمهور لم يعد خياراً متاحاً. وقد حذر "فوكو" أوانها من الطوباوية الراديكالية للاتجاهات واليسارية التي حافظت على حلم الثورة، وتوهمت أنها حققتها في انتفاضة الشباب الأوروبي المندلعة عام 1968، التي اعتبرها مجرد تعبير عدمي عن هذا الأفق المسدود. وعندما انهار جدار برلين، وسقطت الأنظمة الاستبدادية في أوروبا الشرقية لم تعتبر هذه التحولات الكبرى ثورات بالمعنى الحقيقي للعبارة، وإنما نظر إليها غربياً بأنها حلقات جديدة في مسار التحول الديمقراطي في القارة (الموجة الثالثة للديناميكية الديمقراطية بحسب عبارة هنتنجتون). كيف يجب أن نصنف الانتفاضات العربية الحالية؟ هل تدخل في منطق الثورة بمفهومها المستخدم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أم تعتبرها موجة جديدة من موجات الحركية الديمقراطية الكونية، وتعبيراً عن حدث "انكسار الاستثناء العربي" في عالم يتجه تدريجياً إلى الحرية والانفتاح؟ في الحالة الأولى، تكون الأحداث العربية الحالية نقطة تحول كبرى في مسار العالم الراهن، كما زعم بعض كتاب اليسار الغربي من يتامى الثورات الجذرية، وفي الحالة الثانية تكون هذه الأحداث تحولات نوعية تفهم في سياقها الإقليمي والدولي دون كبير عناء. لتناول هذا الإشكال، لا بد أن نبين إن مقولة الثورة التي شكلت براديجم الحداثة السياسية الأوروبية شكلت قطيعة جذرية مع التقليد اللاهوتي – السياسي الوسيط في اعتبارين نظريين مترابطين هما :اكتشاف حقل "المحايثة" أي إناطة مرجعية الشأن المدني والسياسي بالذاتية الإنسانية الحرة والمستقلة عن أي وصاية خارجية، واكتشاف "قارة التاريخ" أفقاً للمعنى وللفاعلية المجتمعية القادرة على التغيير والإبداع. ويمكن أن نقرأ الثورات الغربية الثلاث المؤسسة (الفرنسية والانجليزية والأميركية) من هذا المنظور، باعتبارها صياغات متمايزة لهذا الأفق النظري والمعياري الجديد من منطلق خصوصياتها التاريخية. وإذا كانت ميزة الثورة الفرنسية، هي انبناؤها على علاقة عضوية وثيقة بين العقل (بمفهومه التأملي الديكارتي) والجمهورية (كرابطة انتماء عضوي)، فإن الثورة الانجليزية قامت على فكرة التسامح الضامن للتعددية والسلم الأهلي، في الوقت الذي قامت الثورة الأميركية على فكرة العدالة وتكافؤ الفرص في سياق لحمة "الديانة المدنية" المشتركة. وما تلتقي فيه هذه النماذج الثلاثة هو حسم المسألة اللاهوتية – السياسية وفق مبدأ الفصل بين الوعي العقدي الفردي، والمجال العمومي المشترك، على اختلاف بارز في النتائج المترتبة على هذا الفصل من حيث علاقة الدولة بالمؤسسة الدينية وبالمجتمع المدني. بهذا المعنى نقول إن الثورة هي التعبير المكتمل عن الحداثة السياسية، ومن ثم فإن الثورات العربية الحالية في خطابها ومرجعياتها المعيارية والمفهومية لا تخرج عن الأفق، الذي دشنته الثورات الغربية الثلاث، وإنْ كان السؤال وارداً حول طبيعة وآثار خصوصياتها في سياق المقارنة مع التجارب المذكورة. ولا نحتاج إلى كبير جهد للتبيين أن المدونة النظرية للثورات الأوروبية (قيم الحرية والذاتية)، هي التي حركت الانتفاضات الشبابية العربية وليست اعتبارات الهوية ومواجهة الآخر، التي طالما أطرت الأفق السياسي لما أطلق عليه تجاوزاً "الثورات العربية المعاصرة". بيد أن المفكرين الغربيين أدركوا منذ نهاية القرن العشرين (بعد انحسار وهم الثورات الاشتراكية) أن البراديجم السياسي للحداثة دخل في مرحلة تأزم حاد طال مقولاته المحورية الأساسية: الشعب والمواطنة والسيادة... مما حدا بهم إلى الانقسام إلى اتجاهين بارزين: - اتجاه اعتبر أن أفق الثورات المؤسسة لا يزال قادراً على توفير الإمكانات الضرورية لدفع ومراجعة المشروع التنويري والحداثي الذي لا يزال صالحاً في مقوماته المحورية، وليس مرتبطاً حتمياً بالشكل التاريخي المتجاوز للدولة القومية ولا بالآليات الإجرائية الحالية للديمقراطية الانتخابية (أطروحة هابرماس وعموم الليبراليين الغربيين). - اتجاه اعتبر أن انحسار أفق الثورات المؤسسة يقتضي تفجير ثورات جديدة تحرر الفاعلية التاريخية للإنسان المعاصر وتجدد مقولاته السياسية وممارسته السياسية والمجتمعية (أطروحة توني نجري وتيارات العولمة البديلة). ينعكس الحوار نفسه بقوة في الساحة العربية التي تشهد حالياً مقاربتين كبيرتين تلتقي فيهما مكونات متمايزة من حيث الخلفيات والمنابع الفكرية والأيديولوجية: - تيار ينظر للثورة من البوابة الإصلاحية في منظور التحول المنشود من الأحادية الاستثنائية إلى الحالة الديمقراطية التعددية المستقرة، بما يعنيه هذا الخيار من تحويل الحرية المكتسبة إلى سلطة تأسيسية مثبتة للبناء السياسي المطلوب. - تيار ينظر إليها كحدث تاريخي مفتوح ومطلق لا سقف له، بها تناط كل التطلعات المجتمعية، وكل أهداف التغيير السريع والراديكالي، مما يمنع كل كبح لحركيتها المتدفقة الخصبة والحالمة. وكان الفيلسوف الألماني الكبير "هيجل" قد نبه إلى خطورة الوقوف عند تجربة الحرية "المجردة" غير المتعينة ولا متجسدة في مؤسسات فاعلة، معتبراً أنها تقود (كما كان واضحاً في الحالة الفرنسية)، إما إلى الاستبداد باسم العدالة الثورية أو إلى العنف وصراع الإرادات الحرة. الكتاب الغربيون وأضرابهم من العرب الذين يريدون للثورات العربية أن تبقى في مرحلة الحدث الرمزي الكثيف والجذري، لا يدركون حجم المخاطر التي قد تنشأ عن هذا الخيار، كما لا يدركون زيف الرهان على انتفاضات الشباب العربي من أجل الحرية والكرامة في إعادة فتح باب الفاعلية التاريخية في المجتمعات الغربية التي خرجت نهائيا – كما قال فو كو- من أفق الثورة. يتعين إذن على العرب أن يخرجوا من حالة "الاستثناء" (الوضع الاستبدادي في عصر التوسع الديمقراطي) دون أن يمروا إلى "وضع استثنائي آخر " طوبائي زائف (خصوصية الثورة العربية في عصر ما بعد الثورات). المطلوب هو باختصار تحويل الزخم الرمزي الكثيف للثورات العربية الراهنة إلى بناء سياسي صلب ومستقر.. بما يعني عمليا خروجنا نحن أيضاً من أفق الثورة.