في 10 سبتمبر 2007 سطرت في هذه الصفحة مقالة معبرة بعنوان "عودة القاعدة... بن لادن ينقذ بوش"، وهي المقالة الأكثر قراءة من مقالاتي على موقع "الاتحاد". وقد قلت فيها: "بعد ستة أعوام من الحرب المفتوحة دون هوادة على الإرهاب، وما تخللها من نتائج غير حاسمة، يظهر بن لادن ساخراً محاضراً على بوش، مخاطباً الأميركيين، في مقارنة بين رئيسهم وخسارته في العراق وبريجنيف وخسارة السوفييت في أفغانستان"! واليوم بعد أربعة أعوام، ومع نجاح أوباما في قتل بن لادن، وارتفاع أسهمه وشعبيته وجرأته في محاولة اغتيال أنور العولقي في اليمن "زعيم تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية"، فقد تعززت بوضوح فرص فوزه بفترة رئاسة ثانية في البيت الأبيض، وذلك بحكم إنجازه في حربه على "القاعدة". والملفت أنه حتى قبل اغتيال زعيم ومنشئ تنظيم "القاعدة" في الأول من مايو في باكستان بعملية نوعية عسكرية- أمنية هي الأهم والأكثر نجاحاً في تاريخ الاغتيالات الأميركية، والتي تعد بكل المقاييس نقطة تحول في مواجهة "القاعدة"، كان تنظيم بن لادن يعاني قبل ذلك من جملة انتكاسات. الأولى تمثلت في عجز "القاعدة" عن القيام بأي عملية نوعية كبيرة تقارب ما قامت به في "غزوة مانهاتن" في 11 سبتمبر 2001. وقد اتسمت عملياتها بالندرة والوهن والفردية، وتمثل الخيط المشترك بين العمليات مثل محاولة تفجير طائرة فوق ديترويت، وتفجير سيارة في مانهاتن، وشحن طابعات حبر من اليمن إلى أميركا، بالفشل وعدم الإتقان والارتجالية والعجز عن تحقيق النتائج أو التأثير المطلوب. وقد تعددت انتكاسات "القاعدة" منذ عام 2001. ولم تعد ذلك التنظيم المخيف لأسباب عديدة، أقربها تمثل في النجاح في محاصرة "القاعدة" واعتقال وقتل الكثير من قياداتها مثل خالد شيخ محمد وبن الشيبة وغيرهما، وتبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية عن أنشطتهم وخنقهم ماليّاً. والانتكاسة الثانية تمثلت في طبيعة التغييرات السلمية للثورات العربية، وخاصة في شمال إفريقيا باستثناء ليبيا طبعاً، حيث تحرر ما يقرب من 100 مليون عربي في مصر وتونس وتنفسوا الكثير من الحرية، ليس عن طريق "القاعدة" ووصفتها بالتغيير العنفي، أو بواسطة التدخل الأجنبي ودباباته، بل لقد أتى التغيير بإرادة الشعوب وبشكل سلمي إلى حد كبير. ولم يتجاوز عدد قتلى الثورتين المصرية والتونسية 1500 شخص. وكل ذلك يراكم الفشل والانتكاسات لـ"القاعدة" وإيديولوجية التطرف التي ترفضها الأغلبية الساحقة من المسلمين. كما ترفض أغلبية المسلمين ارتهان الدين الإسلامي العظيم لإيديولوجية الأقلية المتشددة التي تُدخل ملياراً ونصف مليار مسلم في مواجهة مكلفة مع الغرب. أما الانتكاسة الثالثة والأهم فهي في اغتيال ورحيل بن لادن نفسه والقائد والمؤسس والممول للتنظيم، هذا مع أن قتل بن لادن قد لا يعني طبعاً نهاية "القاعدة"، وهذا ما أكدته الإدارة الأميركية وكذلك تنظيم "القاعدة" الذي أصدر يوم الجمعة الماضي بعد أربعة أيام من قتل بن لادن بياناً اعترف فيه بمقتل بن لادن، متوعداً أميركا بالانتقام لـ"أن دماء بن لادن لن تذهب سدى وستبقى لعنة تطارد الأميركيين" في الداخل والخارج. إن قتل أميركا لابن لادن ومحاولة قتل أنور العولقي الأميركي اليمني الأصل في اليمن باستهدافه بصاروخ من طائرة من دون طيار، وهو الذي تحمله واشنطن مسؤولية تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية الفاشلة داخل أميركا انطلاقاً من اليمن أو بسبب التأثر بتعاليمه كما حدث مع الضابط الأميركي نضال حسن الذي فتح النار وقتل 13 من العسكريين في قاعدة عسكرية في تكساس، ومحاولة تفجير طائرة ركاب فوق ديترويت، وإرسال طابعات ملغومة من اليمن إلى أميركا، كل ذلك يجعل اليمن المقر الرئيسي لنشاط القاعدة الأخطر على مصالح الأمن القومي الأميركي. وكذلك في الوقت نفسه يستمر تكثيف أميركا للهجمات على وزيرستان بطائرات من دون طيار. وعلى رغم خرق أميركا للقانون الدولي وسيادة الدول باسم تعقب وقتل من يهدد أمنها -حتى لو كان مواطناً أميركيّاً مثل العولقي- فإن كل هذا مما يؤكد تصميم واشنطن على هزيمة "القاعدة". والراهن أن عمليات استهداف كوادر "القاعدة" تحمي الأمن القومي الأميركي وتشعر الشعب الأميركي بالارتياح والأمن من رئيس لم يكن يتوقع كثيرون منه تحقيق نجاح في حماية أمنهم. لكننا سنتذكر جميعاً كيف سيوظف أوباما هذه الإنجازات المهمة بذكاء في حملة انتخابه ليفوز بولاية ثانية العام المقبل لتعزز سيرته الذاتية وهو ما يحق له فعله. وهذا بالتأكيد سيسحب البساط من تحت خصومه "الجمهوريين" وناخبيهم الذين يتهمونه بالضعف والتخبط في سياسته الخارجية والأمنية. يقول الأميركيون في أمثالهم الشعبية كل شيء جائز في الحب والحرب، وبالنسبة لأوباما هي حرب مع منافسيه "الجمهوريين" المصممين على هزيمته. وهذا يبلور مبدأ أوباما الاستراتيجي الذي سنشرحه في المستقبل. ولكن ضرب "القاعدة" وإضعافها وتعقبها وتحويل استراتيجيتها من الهجوم إلى الدفاع من أجل البقاء، وخاصة بعد فقدان الممول الرئيسي بن لادن، قد يكون الورقة الأقوى في ترسانة أوباما لينتصر بأكثر من طريقة وبأكثر من معنى، لعل أهمها بتحطيم الصورة النمطية عن ضعفه وبإقناع الأميركيين المبتهجين بالانتصار على "القاعدة"، والأهم له شخصيّاً تعزيز فرص فوزه بالرئاسة لفترة ثانية ومستحقة. وعلى رغم استمرار المواجهة بين واشنطن و"القاعدة"، والتي لن نرى فصولها النهائية قريباً بالرغم من اختفاء بن لادن.