ينهمك الأميركيون في نقاشٍ مفتوحٍ فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الباكستانيين من جهةٍ أُخرى. وفي نقاشهم الداخلي يشغلهم أمران: الآثار التي ستترتب على قتل ابن لادن لجهة ردود أفعال أنصاره، وقدرة "القاعدة" على الاستمرار، وردود فعل العرب والمسلمين بشكلٍ عام. والأمر الآخر: المترتبات الأخلاقية والسياسية على واقعة أخذ الثأر وإحقاق العدالة! أما الدولة الباكستانية فإنها مُرتاعةٌ لاختراق الأميركيين لسيادتها إلى هذه الحدود، وكأنما هي المرة الأُولى، ومُرتاعة في الوقت نفسه لحقيقة وجود ابن لادن آمِناً مطمئناً في إحدى بلداتها منذ عام 2006! ولندع الهموم الباكستانية، والأميركية لبعض الوقت، ولنلتفتْ إلى المشهدين العربي والإسلامي قبل مقتل ابن لادن وبعده. فقد سبق ذلك اندلاعُ الثورات المدنية العربية. وأنا أُشدّد هنا على "المدنية"، باعتبارها الحركات الجماهيرية الأُولى التي تنزل إلى الشارع منذ السبعينيات، من غير الجهاديين ومن غير جماعات الإسلام السياسي. وهذا الجمهور الذي خلا منه الشارع العربي منذ وفاة عبد الناصر عام 1970، لديه موضوعٌ وحيدٌ هو البقاء في الشارع سِلماً لحين سقوط النظام في الجمهوريات الوراثية العربية الخالدة، والعمل تبعاً لإقامة نظامٍ مدني ديمقراطي تحت شعاري: المشاركة والكرامة. والطريف أنّ الأنظمة بمصر وتونس والجزائر وسوريا سارعت لتلبية المطالب المادية للمتظاهرين، وهي مطالب كانت تقول إنه تتعذر تلبيتُها بسبب سوء الأَوضاع الاقتصادية! لكنها ما تنازلت في أيّ مطلبٍ سياسيٍّ باستثناء الوعد بعدم التمديد والتجديد بعد أن حدث ذلك لخمس أو ستّ مرات والحبل على الجرار. لقد تفجرت الثورة في الشارع العربي من أجل الحريات والتداول على السلطة، والخروج من قمع الأجهزة الأمنية، ومن الاحتقار والتهميش والتجاهُل الذي لقيتْهُ من سلطاتها طوال العقود الماضية. وبسبب ذاك الغياب الطويل لجمهور الأكثرية عن شوارع مُدُننا وبلداتنا، حاولت أن تملأها الأنظمة والإسلاميون الجهاديون والسياسيون والأميركيون والإيرانيون والأتراك. وكلُّ طرفٍ من هذه الأطراف ما كان هدفه اجتذاب الجمهور أو دعوته لأَمْرٍ ما، وإنما تقاسُمُ الجبنة والنفوذ وحمل الرايات رجاء الحصول على حِصّةٍ في هذه الغنائم المستباحة والتي خلّفها غيابُ الجمهور العربي المالك والمسلوب. فمنذ السبعينيات ظهر عجزُ الأنظمة عن صَون المصالح الوطنية والقومية والإسلامية، والعجز عن التصدي للهجمة الأميركية والصهيونية. ورغم ضبابية شعارات تطبيق الشريعة، والجهاد؛ فإنّ الاعتراض الإسلاميَّ، والتمرد "الجهادي" منذ السبعينيات إنما أراد التعبير بطرائق ملتوية عن استنكاره لهذين العجزين، واللذين اقترنا بتضخُّم الدعوى، وبالسعْي للحصول على وظائف وتكليفات من القوى الدولية والإقليمية. لا يعني"غياب" الجمهور العربي أنه لم يحضُرْ مُلْتاعاً في مناسباتٍ مثل ضَرب العراق (1991)، وغزْوه (2003)، والحرب على غزّة (2008-2009)؛ لكنّ ذلك الحضور المُلتاع بدا حنقاً على الأنظمة، أكثر منه على الصهاينة والغُزاة الأميركيين. ولذا فعندما بدأت زلازل الجمهور في تونس ومصر، وجد الرئيس السوري شجاعةً للقول لصحيفة "وول ستريت جورنال" إنّ أصدقاء الولايات المتحدة هم الذين يخسرون، وليس هو وأمثاله من المُمانعين والمقاومين! وعلى أيّ حالٍ؛ فإنّ التمرد الإسلاميَّ المسلَّح، وعلى مدى ثلاثين عاماً تقريباً، والذي بدأ حقبته الدامية بقتل السادات (1981)، وبلغ ذروته بغزوة نيويورك (2001)، أكمل أطراف المثلَّث ( الأنظمة- الإسلاميون- الولايات المتحدة)، والذي صار مربَّعاً بدخول إيران عليه. وما استطاع التمرد الإسلامي رغم ارتباكاته الكثيرة والكبيرة أن يبلغ أياً من هدفيه: إسقاط الأنظمة المُخامِرة للعدوّ، أو إخراج العدوّ من ديار المسلمين! بل إنه إضافةً لعسْفه بالأرواح والدماء في ديار المسلمين، "نجح" في إثارة العالَم كُلِّه على الإسلام والمسلمين، ودخل الجميع خوفاً وطمعاً في الحرب العالمية على الإرهاب، وفي التفلْسُف بشأن صراع الحضارات، وبشأْن "الاستثناء العربي" إذا تعلّق الأمر بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد كان عُذْر دُعاة هذه المقولات، أنهم لم يروا على الساحات العربية غير رؤساء الجمهوريات الوراثية الذين لا يتعاملون بالداخل إلاّ مع أجهزتهم الأمنية، ويخصّصون أكبر الأوقات لحملات العلاقات العامة بالخارج! وما تنبأَ أحدٌ بخروج الجمهور العربي، ولا بكيفية خروجه. فقد كان ظاهراً أواسط التسعينيات لباحثٍ سياسيٍّ مصري هو نزيه الأيوبي (= تضخيم الدولة العربية، 1994) أنّ الدولة العربية كفَّتْ عن القدرة على الحياة لثلاثة أسباب: العجز عن صون المصالح، واستشراء الفساد، وانسداد كلِّ منافذ الإصلاح... لكنْ لأنه لم يَرَ غير الإسلاميين على الساحة؛ فقد ظنّ أنّ الانفجار القادم على الأنظمة سوف يكونُ تمرداً إسلامياً مسلَّحاً، يوصل إلى حالاتٍ من الفوضى والحروب الأهلية، لعجز الطرفين عن الحسم! والذي حدث في مطلع عام 2011 أنّ مئات أُلوف الشباب، في سائر أنحاء الوطن العربي، بدءاً بتونس ومصر، نزلوا إلى الشارع سِلْماً، مصمِّمين على تغيير أنظمتهم، مهما كانت التكاليف. وكانت الضحية الأُولى لهذه الثورة المدنية الشاملة ليس الأنظمة، كما قد يتبادرُ إلى الذهن واللسان، بل التمرد الإسلاميُّ المسلَّح، باعتباره وسيلةً صالحةً لإحداث التغيير الداخلي، أو لمواجهة التحديات الخارجية. وسقط الطرف الثاني من طرفي الثُنائية، وهو الأنظمة التي تجاوزتْها الجماهير؛ وبذلك صارت حقبةٌ عمرها أربعون عاماً، أثراً من آثار الماضي. فالأكثرية العربية والإسلامية، والتي كان الإمام أبو حنيفة يسمّيها: السواد الأعظم، حسمت الأمر لصالحها، وها هي تُقْبِلُ الآن على إعادة تكوين السلطة القادرة على صون المصالح، والقادرة على التعامُل بكرامةٍ وحريةٍ وبدون عُقَدٍ مع العالَم. ما كان مقتل ابن لادن مأساوياً في وعي الجمهور، لأنه كان قد اعتمد مقاربةً أقلويةً طليعيةً، أقنعه بها الظواهري، وأقنعه بها ضيقُ أُفُقه، وعدم إحساسه بحميمية الجمهور والجماعة والسواد الأعظم. وما كان مقتلُهُ مأساوياً في عيون الجمهور لكثرة ما ارتكب من قتلٍ للمدنيين، مما لا يقبلُهُ عقلٌ ولا نقل. وإذا قيل إنّ الولايات المتحدة قتلت أكثر بالعراق وبأفغانستان وأماكن أُخرى كثيرة؛ فليذكُرْ لنا أحدٌ ترحيباً من جانب العالم بعمليات القتل في بغداد وقندهار وكويتا ووزيرستان.. إلخ! وما كان مقتلُهُ مأساوياً لأنّ الأمة تحركت لتتصالح مع نفسها، ومع العالم. والتصالُحُ مع النفس يتضمَّنُ الإعراضَ عن القتل الذي تلجأ إليه السلطات، وتلجأ إليه "القاعدة"، ولا يلجأ إليه المواطنون العقلاء المنفتحون على الأمة والعالم، والذين يريدون فتْح أبواب المستقبل، وليس الانغلاق في الماضي أو الحاضر! لقد اعتبر ابن لادن العالم فُسطاطين، فُسْطاط إيمان، وفسطاط كُفْر، وهذا الأخير دارُ إباحةٍ، يستطيع فيها شنّ الحرب، وقتْلَ من يشاء. لكنّ الذي لا يأمن الناسُ بوائقه، لا يأمنُها المسلمون أيضاً. فقد اخترق دار الإسلام بمئات الهجمات على المدنيين؛ فما بقي أحدٌ آمِناً! بيد أنّ ذَهاب ابن لادن، لا يعني انتهاء مشكلات الولايات المتحدة، أو مشكلاتنا معها. فهي ما تزال بجيوشها في العراق وأفغانستان. كما أنها ما تزال تتخاذل أمام الاستيطان الصهيوني بفلسطين، وأمام أُطروحة الدولة الفلسطينية المستقلّة، والتي كانت قد بادرت إليها منذ أيام بوش الابن! والأنظمةُ الديمقراطية لا تُهدِّدُ بالإرهاب، إنْ لم تتحقق مطالبُها، لكنّ التعاملَ مع العرب في حقبتهم الجديدة، لا يمكن أن يكونَ مثل التعامُل في الحقبة السابقة، حيث كانت الأنظمةُ وكان الإسلاميون يتبادلان التقاتل والتنافُر. لقد ذهب ابن لادن، ويذهب معه خصومُهُ من أهل الجمهوريات الوراثية، وتبقى الأمة، ويبقى سوادُها الأعظم!