بمقتل أسامة بن لادن المسؤول الأول عن العديد من الجرائم في العالم كان يفترض أن تنتهي القصة وتُطوى صفحة "القاعدة"، لاسيما بعدما تبينت العناصر الأساسية التي أدت إلى مصرعه، ويبدو أنها صحيحة في جوهرها، فقد تمت فعلاً ملاحقته من قبل أجهزة الاستخبارات لفترة طويلة، وبترخيص من الرئيس الأميركي الذي اطلع على الخطة الدقيقة المعدة للنيل منه، وبعد إخباره باحتمالات نجاح العملية أرسل أوباما فريقاً من القوات الخاصة إلى موقع الهدف للقيام بالعملية التي انتهت بمصرع بن لادن. ولكن ما عدا هذه الخطوط العريضة التي باتت معروفة اليوم يظل الباقي غامضاً وإشكاليّاً إلى حد بعيد. ولعل من بين الأمور التي تثير تساؤلات حول مقتل بن لادن تلك المتعلقة بالطريقة المرتبكة التي رُويت بها القصة وما شابها من تناقضات بشأن "الأعطال الميكانيكية" و"اتخاذ دروع بشرية" و"معارك إطلاق النار" وغيرها من القصص والروايات المتناثرة التي وفرت مادة دسمة لوسائل الإعلام سواء في الغرب، أو في العالم العربي. هذا وقد مكنت الروايات المتناقضة من نسج قصص خرجت عن الوقائع الحقيقية لتعكس توجهات أصحاب تلك الروايات وانحيازاتهم الخاصة، فبالنسبة للمحافظين الأميركيين فضلوا في تعليقاتهم التلفزيونية والإذاعية النسخة الأولى من الرواية مفسحين المجال لخيالهم ومروجين لجبن بن لادن الذي كان يعيش "في قصر قيمته مليون دولار" واختبأ "خلف امرأة لحماية نفسه". وهم في كل ذلك أظهروا شماتة واضحة وضجيجاً عاليّاً، بل ذهب البعض إلى إضافة بعض القصص من نسج خياله حتى يضفي تشويقاً خاصاً على الحدث وبطولة متوهمة في محاولة مكشوفة لدغدغة عواطف الناس. ولكن في المقابل هناك من انشغل بأسئلة أخرى مثل: لماذا لم يعتقل بن لادن ليقدم حيّاً إلى العدالة ويحاسب على الجرائم التي اقترفتها يداه؟ وعلى الضفة الأخرى وتحديداً في الشرق الأوسط جاءت التعليقات لتعكس انعدام الثقة في الرواية الأميركية وتجذر مشاعر الشك والريبة المزمنة في السياسة الأميركية، حيث اعتبر البعض في الشرق الأوسط أن مجمل القصة مجرد خيال أميركي، مستندين إلى بعض الأجزاء المتناقضة التي تثبت وجهة نظرهم، ففي إحدى الروايات التي سُمعت في الشرق الأوسط أن بن لادن اعتُقل حيّاً ثم أُعدم بعد ذلك، فيما ذهب البعض الآخر إلى أنه قاتل بشراسة وأسقط طائرة مروحية أميركية. أما فئة ثالثة، وإن كانت أقلية، فقد نفت تماماً الرواية وشككت في إمكانية النيل من بن لادن باعتبار أن القصة برمتها مجرد فبركة أميركية. هذا في الوقت الذي أثيرت فيه إشكالات إضافية حول الطريقة التي تم التخلص بها من جثمان بن لادن ورميه في البحر، فعلى رغم تشديد السلطات الأميركية على احترام القواعد الإسلامية في التعامل مع الجثمان فقد عبرت جهات إسلامية كثيرة عبر العالم عن تحفظها إزاء رمي جثمانه في البحر. والنتيجة أنه بدلًا من دفن القصة وطي صفحتها ظلت الأسئلة تتناسل لحظة بعد أخرى مع مطالب متواصلة بمزيد من التوضيح والتفاصيل. بل لقد ظهرت دعوات تطالب بالإفراج عن صور بن لادن قتيلًا. وبالطبع لا يعني هذا التشكيك في الرواية الأميركية، أو على الأقل بعض أجزائها، وجود تعاطف مع بن لادن الذي قتل من المسلمين أكثر مما قتل من غيرهم وتسبب في الكثير من الدمار سواء في أوروبا وأميركا، أو في العالم العربي، ولكن الأسلوب الذي تعاملت به الإدارة الأميركية مع الحدث والتضارب في روايتها فتح الباب واسعاً على حزمة من التساؤلات والشكوك، وفي لحظة من اللحظات اضطر أوباما، وكان محقاً في ذلك، إلى إغلاق الملف تماماً، مصرّاً على أنه لن يكون هناك مزيد من المعلومات حول القضية بعدما أدرك أن الإعلام مهما حصل على تفاصيل إضافية فإن نهمه للمزيد لن ينتهي، وستبقى شهيته مفتوحة للأكثر. ويظل الجانب الأكثر أهمية في مقتل بن دلان تأثير ذلك على العلاقة بين أميركا وباكستان، لاسيما في ظل علامات الاستفهام التي تحوم حول إسلام آباد وعدم كفاءة أطراف معينة في اكتشاف مكان اختباء بن لادن طيلة الفترة السابقة، فقد اكتُشف مخبأ بن لادن في مكان لا يبعد كثيراً عن الأكاديمية العسكرية في مدينة أبوت آباد، وإذا تبين أن الاستخبارات الباكستانية لا تعرف فعلاً مكان زعيم "القاعدة" المقتول فذلك يثير تساؤلات أخرى حول مدى كفاءة تلك الأجهزة ونجاعتها. وهذه التساؤلات نفسها تُثار حاليّاً في الكونجرس الأميركي لمعرفة ما إذا كان من المجدي الوثوق في باكستان والاستمرار في دعمها ماليّاً واقتصاديّاً، ناهيك عن قلق باكستان من قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية على حماية سيادة البلاد سواء تعلق الأمر بتواجد عناصر إرهابية فوق ترابها، أو انتهاك أراضيها من قبل القوات الأميركية. ولاشك أن قصة مقتل بن لادن والطريقة التي سيتعامل بها الطرفان معها ستحدد العلاقة المستقبلية بين البلدين في ظل احتياج كل منهما للآخر، فباكستان ما زالت في حاجة إلى الدعم الاقتصادي الأميركي والتعاون العسكري لمحاربة الإرهاب الداخلي، فيما أميركا تحتاج المساعدة الباكستانية في مواجهة الإرهاب العالمي وتهدئة الأوضاع في أفغانستان المجاورة. ومهما يكن من أمر فإن مقتل بن لادن ينهي فصلاً أليماً في ذاكرة الأميركيين خصوصاً بدأ بهجمات 11 سبتمبر واستمر لعقد كامل ارتكبت فيه "القاعدة" أشنع الجرائم في أماكن مختلفة من العالم مزهقة أرواح الأبرياء من المسلمين وغيرهم.