ظهر نمط واحد لدى بعض النظم العربية قبل أن تتهاوى في تونس ومصر، أو في طريق التهاوي في ليبيا واليمن، أو التي بدأت في الدفاع عن نفسها ضد التحركات الشعبية بالآلاف في سوريا والعراق وغيرهما، نمط واحد لتفسير ما يحدث لديها من غضب شعبي، وتحرك جماهيري يتصاعد يوماً بعد يوم كلما واجهت بعض هذه النظم الجماهير بالسلاح، ودفعتها من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بتغيير النظام. وهذا التفسير الذي سئمه الناس، وتعودت عليه الجماهير، وانتشر في الإعلام الحكومي ليس وصفاً لما يحدث، وفهماً لمسار التاريخ، بل هو دفاع عن النظام، وتبرير للبقاء في الحكم، حرصاً على السلطة والمال. لا يصدقه أحد. وأصبح أضحوكة في الرأي العام الوطني والعربي والعالمي للتندر به. يزيد الاحتجاج اشتعالاً، والتظاهر شدة، والشعب انتفاضة. هو تفسير ما يحدث بالتآمر، من عقلية تآمرية، تآمرت هي على الناس، وظلت في الحكم عقوداً من الزمان دون مشاركة أو تداول للسلطة، ودون رقابة شعبية، واعتماد على الحزب الحاكم الواحد أو حزب الأغلبية وبعض المجالس النيابية المزيفة. السياسة تآمر، وما يعارضها تآمر. والمؤامرة نوعان: خارجية وداخلية. خارجية من أميركا وإسرائيل وداخلية من الأصوليين والفوضويين. تتآمر أميركا ضد الحكم الوطني. فقد أصبحت ممثل الاستعمار الجديد باسم العولمة. وما زال الحكم الوطني استمراراً للنضال الوطني في الخمسينيات والستينيات. لم ينقلب على نفسه مثل غيره منذ السبعينيات وحتى الآن. ما زال باقيّاً على العهد، روح عبدالناصر الذي جسد حركة التحرر الوطني ومطلبها في الحرية والاستقلال. مع أن مصلحة أميركا مع النظام القائم أداة الأمن والاستقرار في المنطقة. يناضل ضدها قولًا، ويتحالف معها عملًا، في الاقتصاد والسياسة، في النفط والسلاح. الخطاب الوطني للاستهلاك المحلي. والخطاب المهادن للغرب لاسترضاء أميركا. وبالتالي يكسب النظام تأييد الداخل وتأييد الخارج. وهي أيضاً مؤامرة خارجية من إسرائيل التي تريد أن تقضي على ما تبقى من نظم وطنية ما زالت متشبثة بحقوق شعب فلسطين. تؤيد المقاومة، وترفض عقد معاهدة صلح معها طبقاً لشعار مؤتمر الخرطوم في 1967 "لا مفاوضة ولا صلح ولا اعتراف" بإسرائيل. والواقع أنها تقاوم قولًا وتستسلم فعلًا. لا تحرك ساكناً ضد إسرائيل. والأرض ما زالت محتلة في فلسطين والجولان ولبنان. تعقد معاهدة علنية معها، وتطبِّع العلاقات وتصدر الغاز، وتتآمر على غزة، وتغلق معبر رفح، وتقيم الجدار الفولاذي. وربما تقيم علاقات سرية معها، وتفتح إسرائيل مكاتب تجارية لديها أو لرعاية شؤون اليهود العرب الذين هجرتهم إسرائيل في 1948، اليهود الشرقيين، غالبية سكان إسرائيل. وتمنع المقاومة على أرضها بينما تؤيد المقاومة على أرض الآخرين. والسنوات تمر. والاحتلال يترسخ، والمستوطنات تتكاثر، والشعوب تهود مصالحها مع إسرائيل وليس مع الوطن الأم. وقد يزعم أنها "مؤامرة" خارجية من الجيران العرب، الذين يودون إثارة القلاقل لدى دول "الممانعة" من أجل تصفية القضية الفلسطينية بتصفية النظم "الوطنية" أولاً! لذلك تغلق الحدود بين الجيران العرب، وتفتش العربات خشية تصدير السلاح، وتدمر الأنفاق التي تعبر الحدود من أسفل بدعوى النزاعات الحدودية والدفاع عن التراب الوطني. ويصبح العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي. فقط "أنا وأخويا على ابن عمي" وليس "أنا وابن عمي على الغريب". وقد تكون المؤامرة داخلية، من الأصوليين على كافة فصائلهم، من "القاعدة" إلى "السلفيين الجهاديين" إلى "الإخوان". يريدون تحويل الوطن إلى "إمارة إسلامية". وهو ما لا يقبله العلمانيون في الداخل ولا الغرب في الخارج. وهم معادون بأيديولوجيتهم لأميركا وإسرائيل. "يجاهدون" ضد الغرب الملحد. ويتحالفون مع "حماس" و"حزب الله" من أجل القضاء على إسرائيل. وقد تكون المؤامرة من عصابات مسلحة، ملثمين للنهب والسلب وإشاعة الفوضى في البلاد. يتدخل الجيش بناء على طلب الشعب للقضاء عليهم بعد أن تعجز الشرطة. يبادرون بقتل المدنيين ثم الشرطة. لا يختلفون عن الإرهابيين في استعمال العنف، وزعزعة الأمن والاستقرار. والقضاء عليهم واجب وطني، حماية للآمنين، وتطبيقاً للقانون. المؤامرة الخارجية والداخلية هي تفسير النظام السياسي للتحركات الشعبية، وتشويه الاحتجاجات الجماهيرية، وتبرير لمواجهتها بالسلاح. وهي ثورات وطنية تلقائية. فجّرتها شرارة تونس، وشجعها بركان مصر. وحمّسها زلزال اليمن وليبيا، ودفعتها هزات سوريا والعراق والأردن، وامتدت إليها ارتجاجات الجزائر. فالوطن العربي واحد في نظمه السياسية التي تقوم على التسلط، وفي ثوراته الشعبية التي تطالب بالحرية والكرامة للمواطن، وبالديمقراطية للمواطنين، دفاعاً عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. وهي ثورات سلمية تواجهها بعض نظم الحكم بالسلاح. تهتف بالشعارات وتواجهها الشرطة ورجال الأمن بالقوة. فإن عجزت ينزل الجيش بمصفحاته ودباباته إلى الشوارع لإطلاق النار على المتظاهرين ومحاصرة المدن، ومنع الماء والكهرباء والمواد الغذائية عنها. نظام يقتل شعبه كي يحكمه بالحديد والنار. لا فرق بين شاب وطفل ومسن وامرأة، بين غاز مسيل للدموع، ورصاص مطاطي، ورصاص حي في الهواء للتخويف أو في القلب والرأس والصدر للقتل. ويسقط الشهداء بالمئات. ويعتقل المتظاهرون بالآلاف. وتلقى الوعود بالإصلاح. وتصدر مراسيم بإلغاء قانون الطوارئ والإفراج عن عشرات المعتقلين من ضمن آلاف في السجون منذ عشرات السنين. وفي الوقت نفسه يعتقل آلاف غيرهم. ولماذا تأخر الإصلاح على مدى أربعين عاماً، ولا يبدأ إلا بعد التحركات الشعبية؟ ويتحرك الغرب، وتصدر قرارات مجلس الأمن هذه المرة دفاعاً عن الشعوب العربية من العدو الداخلي، النظم العربية، وليس من العدو الخارجي، المحتل الإسرائيلي. وفي كلتا الحالتين، الشعب العربي هو الضحية. وتختلف مواقف الجيوش العربية، بين الجيوش الوطنية في دول المؤسسات مثل تونس ومصر التي تنضم إلى الثورة، وترفض إطلاق النار على الجماهير. فالجيش ابن الشعب وحاميه، والجيوش التي انقسمت على نفسها، نصف مع الثوار، ونصف مع نظام الحكم. وأصبح يسمى كتائب باسمه، جيش مرتزق يأتمر بأوامر الزعيم. يطلق النار على الجماهير وكأنها عدو له، ويترك العدو المحتل آمناً سالماً. ويستقيل المدنيون قضاة ووزراء ونواباً ومحافظين ورجال إفتاء. ويعتمد التفسير بالتآمر الداخلي على ثقافة تقوم على إعطاء الأولوية للفاعل الخارجي على الفعل الذاتي، بصرف النظر عن تسميته: السلطة، القدر، المكتوب، القسمة والنصيب، الحظ، الزمن، المصير. فكيف تستطيع الثورات الوطنية أن تغير من هذه الثقافة الشعبية إلى ثقافة أخرى تعتمد على التفسير الذاتي، والعوامل الداخلية، وحرية المواطن، وعزة الشعوب؟